أرض اللؤلؤ: رحلة في قلب القيادة الملهمة (2)

أرض اللؤلؤ: رحلة في قلب القيادة الملهمة (2)
مستوحى من روح مؤتمر القيادة العالمي ـ المؤتمر الأول للقضاة والمستشارين…
بقلم د. غادة فتحي الدجوى
بعنوان: كيف يبني أفضل القادة المرونة؟
في قلب المشهد القيادي الحديث، حيث تتعالى الأصوات وتختلط الأولويات، يبقى هناك سؤال واحد يتردد في الوجدان: كيف نصنع قادة يعرفون كيف يحملون الفرق في أوقات الانهيار؟ في محاضرته الملهمة التي حملت عنوان “كيف يبني أفضل القادة المرونة”، فتح ماركوس باكنجهام نافذة مختلفة على جوهر القيادة، نافذة لا تُطل من برج عاجي، بل من الداخل، من التجربة الإنسانية التي نخوضها كأفراد قبل أن نكون قادة.
أولى المفاهيم التي تناولها كانت المرونة، لا كمصطلح نظري، بل كمهارة حياتية تُمارس في أدق لحظات التوتر. وظهر من خلال المحاضرة أن القادة لا يُقاسون فقط بخططهم ومهاراتهم التنظيمية، بل بقدرتهم العميقة على حمل القلق المشترك، وإعادة صياغته إلى طمأنينة. إنهم من يمتصّون صدمات المجهول، ويعيدون توزيع الأمان بهدوء على أفراد فريقهم. المرونة، كما وصفها، ليست فقط القدرة على العودة، بل على العودة بشكل أقوى، بأفق أوسع، وثقة أعمق.
في حديثه عن بناء هذه المرونة، سلط الضوء على أدوات ثلاث تُشكّل البنية التحتية لأي فريق مرن. التواصل الاستباقي جاء في مقدمتها، حيث لا ينتظر القائد أن يُسأل كي يجيب، بل يستشرف ما لم يُنطق بعد. فالحضور الصادق، والنبرة الواضحة، والرغبة في الطمأنة، تصبح كلها علامات على قيادة تُدرك أثر الكلمة قبل أن تُقال. تلا ذلك الحديث عن السلامة النفسية، ذلك الشعور العميق بأنك مسموح لك أن تكون ذاتك دون خوف، دون تمثيل، دون تصنّع. في بيئة كهذه، تُزهر الطاقات وتُقال الأفكار وتُعالج الأخطاء بلا وجل.
إلا أن الجملة التي كانت بمثابة لحظة توقف حقيقي خلال المحاضرة، كانت حين قال: “بناء الثقة حول المجهول”. لم يكن يقصد أن نُطمئن الناس فقط لما نعرف، بل أن نُدرّبهم على الثقة ونحن لا نعرف. أن نقول لهم: “نحن لا نملك كل الإجابات، لكننا نملك نية المضي معًا، ولن نترك أحدًا في المنتصف”. إنها القيادة التي لا تدّعي اليقين، لكنها تتقن بناء الأمان حتى في غيابه.
وحين انتقل باكنجهام إلى الحديث عن التفقد، لم يتحدث عنه كروتين إداري، بل كفعل حب. فأن تسأل أحدهم يوميًا: “كيف حالك؟”، ليس مجرد سؤال، بل رسالة: “أنا أراك، وجودك مهم، ومكانك محفوظ”. هذه اللفتات الصغيرة، كما وصفها، تبني سدًا منيعًا أمام الانهيار الداخلي. هي التي تزرع الثقة وتُعلّم الفريق أن قائده لا يراقبهم من بعيد، بل يسير بينهم.
وفي لحظة تأملية جميلة، كانت فكرة تحمل من العمق أكثر مما تبدو عليه: “ليس للحب خمس لغات كما يُشاع، بل هناك أكثر من مليون لغة للحب، بشرط أن نفهم كيف نحب ونحن قادة”. القيادة الحقيقية، من وجهة نظره، لا تفترض أن ما يقوّيني سيقوّي غيري. بل تعترف بخصوصية كل فرد، وتبحث عن اللغة التي تلمسه، تحفّزه، وتفتح له بابًا جديدًا إلى ذاته.
المحاضرة لم تكن تعليمًا بقدر ما كانت تذكيرًا. تذكيرًا بأن القيادة، في جوهرها، فعل إنساني. وأن القادة لا يُصنعون بالكلمات الرنانة أو الخطط المحكمة فقط، بل بالحضور الصادق، والحب الذكي، والثقة التي تُمنح حتى في زمن الأسئلة المفتوحة. في “أرض اللؤلؤ”، حيث تبدأ رحلتنا في هذه السلسلة، لا نبحث عن قادة يضيئون الطريق فقط، بل عن أولئك الذين يعرفون كيف يسيرون معنا في العتمة، خطوة بخطوة، حتى يعود الضوء.
وخرجت من المحاضرة وأحببت أن أنقل لكم ما بداخلي:
فكان بداخلي عناوين منها كيف لنا أن نشعر بموسيقى الحب التنظيمي:
o هناك من يشعر بالتقدير عندما تُكتب له ملاحظة بخط اليد.
o وآخرون يرون الحب في منحهم مشروعًا مستحيلًا لإثبات ثقتك بهم.
o البعض يتفتح عندما تشاركه صمتًا محترمًا بدلًا من نصائحَ غير مطلوبة.
عندما تتحول المهام إلى سيمفونية إنسانية …المحاضرة لم تكن عن إدارة الأعمال، بل عن “هندسة النفوس”. الخلاصة الأجمل من وجهه نظري:
• “المرونة تُنسج بخيوطِ اللحظات الصغيرة”: ابتسامة في يوم سيء، سؤال غير متوقع يُظهر الاهتمام، اعترافٌ علني بجهدٍ غير مرئي.
• “القائد الحكيم لا يمتلك الإجابات، بل يمتلك الأسئلة التي تُطلق العقول”.
• “أعظم ميراث للقائد هو ليس ما بناه من مشاريع، بل من أشعل فيهم من ثقةٍ بأنهم أقوى مما يتصورون”.
ولكي أكون موضوعية خرجت بدروس مستفادة لنطبقها في حياتنا، فجميعنا قادة في مواقعهم..
10 “ممارسات للقائد الملهم لبناء فريق ناجح ومثمر:”
1. ابدأ بالتفقد اليومي الحقيقي
خصص وقتًا – ولو 5 دقائق – للسؤال عن كل فرد في الفريق. ليس عن المهام فقط، بل عن حاله. التفقد يزرع الشعور بالانتماء ويقوّي الثقة.
2. كن واضحًا… واستباقيًا في التواصل
لا تنتظر أن يطلب الفريق التوجيه، بادر دائمًا بشرح الأهداف، والتغييرات، والتحديات. اجعل المجهول أقل توحشًا بالوضوح.
3. هيّئ بيئة من “السلامة النفسية”
اجعل الفريق يشعر أن من حقهم الخطأ، وطرح الأفكار، والاعتراف بالضعف دون خوف من اللوم أو الإحراج. هنا فقط يولد الإبداع.
4. اعترف علنًا بنقاط القوة الفردية
لكل فرد نقطة تميّز. سلّط الضوء عليها، وأشعره أن ما يفعله مهم. هذا يُنتج طاقة تحفيزية عالية ذاتيًا.
5. احمِ ظهر الفريق… حتى لو لم يلاحظوا ذلك
دافع عن فريقك في الاجتماعات، لا تُحمّلهم أعباء لا تخصهم، وتحمّل المسؤولية عند الإخفاق الجماعي. سيبادلونك الولاء.
6. استمع بنية الفهم، لا الرد
اجعل الاستماع فعل احترام وليس مجاملة. افهم دوافع الفريق، ما يقلقهم، ما يعيقهم، وما يحفزهم.
7. خصّص وقتًا للتغذية الراجعة الإيجابية
لا تربط الملاحظات فقط بالأداء السلبي. امدح التصرفات الصحيحة باستمرار، لتتحول إلى سلوك متكرر.
8. اجعل الحب جزءًا من أسلوب القيادة
حبك لفريقك يعني فهمك لكل فرد بطريقته. ليس هناك لغة حب واحدة، بل ملايين الطرق لفهم الناس وتحفيزهم بصدق.
9. انقل رؤيتك بلهجة إنسانية
لا تتحدث بالأرقام فقط، بل اربط الأهداف بمعنى. أخبرهم لماذا نفعل ما نفعل، وكيف يساهم عملهم في شيء أكبر.
10. نمِّ نفسك كقائد أولًا
القائد الملهم لا يتوقف عن التعلم. اقرأ، استمع، شارك، اطلب التغذية الراجعة. لأن فريقك سيتطور على قدر تطورك أنت.
“في أرض اللؤلؤ، لا نبحث عن القادة الذين يصنعون النجاح، بل عن أولئك الذين يصنعون من الفشل لآلئَ تزين أعناق فرقهم.”
إلى اللقاء في أرض اللؤلؤ…