مقالات وآراء

الصندوق والبنك.. هل تنجح الوصفات الدولية في علاج الأوجاع المحلية؟

منذ عقود طويلة يلجأ العديد من الدول إلى المؤسسات المالية الدولية وعلى رأسها صندوق النقد الدولي والبنك الدولي كملاذ لاستعادة التوازن المالي وتخفيف الضغوط الاقتصادية. لكن السؤال الأهم يظل: هل تنجح هذه الوصفات المجربة في علاج أوجاع الشعوب المحلية؟ وفي حالة مصر الماثلة أمام تحديات متعددة ، كيف يمكن للتجربة الدولية أن تصنع فارقا إيجابيا حقيقيا؟

عندما تتعاقد الدولة مع صندوق النقد الدولي على قرض مستحق ، يتبعه عادة برنامج إصلاح هيكلي شامل يشمل خفض العجز في الموازنة العامة، وترشيد الدعم، ورفع كفاءة الإنفاق العام بالإضافة إلى تشجيع الخصخصة وتعزيز دور القطاع الخاص. والمقابل يتمثل في شريحة مالية فورية تزيد الاحتياطي الأجنبي للدولة ، ويخفف من الضغط على قيمة العملة المحلية. هذه المنهجية أثبتت في بعض الأحيان فاعليتها في تخفيف أزمة ميزانية مزمنة، واستعادة ثقة المستثمرين وجذب تمويل خارجي أكبر.

في مصر شهدنا خلال السنوات الماضية تفاهمات واضحة مع الصندوق والبنك الدولي لتنفيذ حزمة إصلاحات اقتصادية شملت إعادة هيكلة الدعم ، ورفع الدعم عن بعض الوقود والكهرباء بالتدريج ومسارات لتوسيع قاعدة الضريبة العامة وتحفيز النشاط الصناعي والزراعي. كانت النتيجة المباشرة ارتفاع الاحتياطي الأجنبي إلى مستويات قياسية ، وتراجع معدلات التضخم بعد ذروة تجاوزت 30%، وانفتاح سوق العمل أمام استثمارات جديدة في قطاعات مثل الغاز الطبيعي والطاقة المتجددة.

إلا أن هذه النتائج لا تُنسي أوجاعا محلية ظهرت نتيجة إجراءات الترشيد. فالأسرة المصرية المتوسطة التي اعتادت على دعم الطاقة والسلع الأساسية واجهت ارتفاعا في تكاليف المعيشة طوال عامين حتى قبل أن يثبت الاقتصاد تحسنا نسبيا. ولعل التجربة هنا تكمن في ضرورة ربط الوصفة الدولية بحزمة حماية اجتماعية فعالة وسريعة. فالدول التي نجحت في تطبيق برامج صندوق النقد دون أن يشهد المواطنون صدمات ميدانية كبيرة ، هي التي رافقت الإصلاح بسياسات تنمية شاملة تستهدف ذوي الدخل المحدود عبر توفير إعانات نقدية أو دعم مشروط للفئات الأكثر احتياجًا.

بما أن الصندوق والبنك الدولي لا يقدمان حلا يعالج وجع المواطن مباشرة بل يضعان خارطة طريق اقتصادية تحوّل موازنة الدولة من دائرة العجز إلى دائرة الانضباط والشفافي يصبح دور الدولة المحلية حاسما في تفعيل تدابير الحماية الاجتماعية وضمان أن تصل فوائد النمو لرأس الهرم والفقرات الدنيا معا. وهنا يتجلى المكمن الحقيقي: فالدولة التي لا تبدع في إنشاء شبكات اجتماعية فعالة وتنقل المواطن من إطار متلقٍّ متضرر إلى مشارك فعال لن تتجاوز أزمة الثقة بين الشعب والمؤسسات بسهولة.

تجربة مصر مع البنك الدولي أيضا مهمة. إذ رصد البنك دعما كبيرا لقطاعات حيوية مثل التعليم والصحة والبنية التحتية وقدمت مشروعات تنموية أسهمت في تقوية شبكة الطرق والكباري وتحسين الخدمات الطبية بالريف والمدن الجديدة إلى جانب برامج تدريب الشباب وتأهيل الحرفيين. وهذا العمق التنموي على الرغم من بطئ آثاره أحيانا ، فإنه يمهد لظهور مجتمع أقوى قادر على استيعاب الآثار الجانبية لخطوات الإصلاح المالي. فعندما يشعر رب الأسرة بالرغم من ارتفاع فاتورة الكهرباء بأن جودة الخدمة تحسنت ، وتوجد فرص أفضل لأطفاله في المدارس ومراكز الشباب سيؤمن بأن التضحيات الحالية ليست دون مقابل.

يبقى التحدي في قدرة الدولة على الموازنة بين الشروط الدولية ومتطلبات المواطنين. فقد تميل بعض الدول الهشة إلى التركيز على “وفاء الالتزامات الخارجية” لتجنب تدهور قيمة العملة وارتفاع تكلفة الدين لكنها تنسى أن التعافي الحقيقي يبدأ عندما يستيقظ المواطن كل صباح على فرصة عمل جديدة أو تحسين ملموس في مستوى الخدمات. وهنا يظهر دور “القيادة الاقتصادية” في توجيه الانفاق العام ليركز على التدريب المهني ، وتحفيز مشاريع صغيرة ومتناهية الصغر وتطوير منظومة التعليم الفني ليتماشى مع احتياجات سوق العمل.

باختصار لا يمكن القول إن لـ”الوصفات” الدولية قوة سحرية تعالج أوجاع الشعوب لوحدها ، لكنها تمثل صندوق أدوات اقتصادي مهم محفوف بشروط مالية وفنية تُنظم الإنفاق وتضع الاقتصاد على مسار الانضباط. وإذا أحسنا استخدام هذه الأدوات وربطناها بخطط حماية اجتماعية قوية وبرامج تنموية حقيقية ، فإننا نمنح مناخ الثقة فرصة أكبر للعودة إلى المواطن. حين يلمس الناس يوميا آثار الإصلاح على قوتهم وأمانهم الصحي والمهني ، تصبح “الوصفة الدولية” ليست عبئا بل دعامة حقيقية لاقتصاد مستدام يحمي الاقتصاد الوطني ويؤمن استقرار المجتمع.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى