مقالات وآراء

أرض اللؤلؤ: رحلة في قلب القيادة الملهمة (3) مستوحى من روح مؤتمر القيادة العالمي ـ المؤتمر الأول للقضاة والمستشارين…

أرض اللؤلؤ: رحلة في قلب القيادة الملهمة (3)
مستوحى من روح مؤتمر القيادة العالمي ـ المؤتمر الأول للقضاة والمستشارين…
بقلم د. غادة فتحي الدجوى
كبسولة التوازن… ما بين الحياة والعمل …هذه المقالة مزيجًا بين محاضرة د. الياس ومفاهيمه وتحليلي الشخصي وفهمي للمحاضرة
في زاوية من زوايا الإدراك، حيث يضيق النفس بين ازدحام المسؤوليات وتراكم المطالب، هناك صوت هادئ، واقعي، حقيقي… لا يرتفع ليصرخ، بل يتسلل ليوقظ. ذلك ما فعله د. طارق إلياس في محاضرته المختصرة الواضحة، التي لم تتغذَّ من نظريات معلبة ولا خطابات معلّقة، بل نبتت من واقعٍ يشبهنا جميعًا، من مواقف نعرفها، وربما نعيشها كل يوم دون أن نعترف.
لم تكن المحاضرة درسًا في التوازن بقدر ما كانت مرآةً مصقولة وضعت أمام أعيننا بأسئلة مباشرة، لكنها محمّلة بالتأمل. فجاء السؤال الأول: متى نعرف أننا بحاجة للتوازن في حياتنا؟ ليس حين نحتاج للتوازن، بل حين يبدأ ذلك الصوت الداخلي فينا يهمس: “أنت تُستنزف”. والقيادة تبدأ من هذه اللحظة، لحظة الاعتراف، قبل أي قرارات أو محاولات لإصلاح الخارج.
ثم جاء السؤال الأهم: من المبادئ الأساسية في علم القيادة أن نعرف أولًا… ثم نقرر. قد تبدو العبارة بديهية، لكنها تختبر صدقنا مع ذواتنا. كم مرة قررنا دون أن نعرف حقًا ما نريد؟ كم مرة خضنا خيارات الحياة لا بدافع الإدراك، بل بدافع التسرع أو الرغبة في الهروب من السؤال الأصعب؟ فهل نوافق على هذا المبدأ؟ أم أننا لا زلنا نخلط بين القرار والمعرفة، بين الموقف ورد الفعل؟
أما عن التفويض، فقد كان للمحاضر رأيٌ صادق بعيد عن التنظير. المسؤولية قيمة جوهرية في القيادة، لكنها لا تعني أن تحمل كل شيء وحدك. فهل تفوض؟ ولماذا؟ التفويض ليس ضعفًا، بل إدراكٌ أنك لست كل الفريق، وأن الآخرين بحاجة لأن ينموا من خلالك لا خلفك. لا تكن القائد الذي يعبر وحده، بل الذي يمد الجسر ويعبر معه الجميع.
ولأن عالم القيادة كثيرًا ما يرتّب أولوياته بطرق تقليدية، أتى التنبيه الواضح: لا تتعامل بمبدأ “أهل الثقة قبل أهل الخبرة”. بل ضع الخبرة في المقدمة، ثم ابحث عن الثقة كقيمة تكتمل بالمعرفة. فالعاطفة وحدها لا تبني فريقًا قويًا، إنما المهارة هي ما يصنع فارق الأداء، والثقة تُبنى على الفعل لا على القرب فقط.
ثم انساب الحديث إلى مفاهيم دقيقة، بسيطة في ظاهرها، عميقة في أثرها. قال: “سمِّ الأشياء بمسمياتها”. لا تجمّل الواقع، ولا تخفِ التعب، لا تلبس الفشل قناعًا باسم “محاولة”. اسمح لنفسك بأن تغضب، ثم تجاوزه، فالقائد ليس منزّهًا، بل إنسانٌ يدرك ضعفه ويعود أقوى.
قال أيضًا: “لن تفعل المستحيل، لكن ستفعل ما تستطيع”. كم نحن بحاجة لهذه الحقيقة البسيطة، في زمن يُضغط فيه القادة ليكونوا آليين، خارقين، دائمًا متاحين، أبدًا مثاليين. لكن الحقيقة أن القائد هو من يعطي، دون أن يسرف في العطاء.
وهناك لحظة تأمل عميقة كانت بمثابة ومضة داخلية حين قال: “لا تجعل الآخرين يأخذون القرار عنك”. القيادة تبدأ من القرار. فإن لم تكن تملك قرارك، لن تملك من يقود خلفك. خُذ وقتك. اسأل. استشر. وخذ القرار الصائب.. فأنت قائد
ومن بين تلك الحروف، وردت جملة كنت قد عرفتها ذات يوم في دبلوم الفنون، لكنها هنا اكتسبت عمقًا جديدًا:
“اطلب من أصحاب القوة في عملهم أن يمدونا ويمنحونا من قوتهم.”
يا لها من دعوة نبيلة! أن تعترف بحاجتك، أن ترى في نجاح الآخرين مصدر دعم لا مقارنة، أن تؤمن أن القائد لا يخجل من طلب السند، بل يعرف تمامًا أين يجده. هي ليست دعوة للاستعانة بالغير فقط، بل اعتراف أن الدعم الحقيقي لا يأتي من الكلمات، بل من هم راسخون في ميدانهم، ممن نستمد منهم الدفع عند الانطفاء.
ولأننا نعيش في عالم لا يرحم لحظات ضعفنا، ذكّرنا د. طارق أن الضعف ليس عيبًا. بل هو ما يجعلنا بشرًا. هو ما يجعل قلوبنا قادرة على الفهم، والاحتواء، والرحمة. لكن المهم أن تهتم بلحظات ضعفك كما تهتم بلحظات قوتك. ففي الضعف تُختبر إنسانيتك كقائد. لكن ما جعلني أرفع رأسي فجأة وأتأمل، كان قوله:
“ثبّت شخصيتك ولا تثبت قدميك، فإن القمة تهتز.”
القائد ليس من يتشبث بالموقع، بل من يرسّخ نفسه بما لا يتغير. في عالمٍ يتبدّل بسرعة، وحدها الشخصية المتزنة، العميقة، الشفافة، هي من تصمد. القائد الحقيقي لا يصنع لحظة انتصار… بل يزرع صفوفًا من القادة، يمنحهم من فكره، ويترك لهم من قلبه، ويشهدهم يقطفون زهور الطريق الذي مهّده هو دون أن يظهر في الصورة. القائد ليس من يصر على البقاء في الأعلى، بل من يعرف أن البقاء في القمة لا يعني الثبات في المكان، بل الثبات في الجوهر. فقيمك، شخصيتك، ضميرك… هذه هي ما لا يهتز حين تتحرك الأرض من تحتك.
وفي ختام المحاضرة، ظهرت أجمل معاني القيادة: أن تصنع قادة غيرك. أن تهيئ الأرض ليمروا، وتترك لهم زهرة من تجربتك، لا شوكًا من صراعك. القيادة ليست ضوءًا يتجه إلى القائد فقط، بل نورًا يضيء الصفوف القادمة. فمن عرف أن الحياة عمل… وأن التوازن ليس ترفًا بل حاجة، سيعرف كيف يزرع في كل يوم بذرة لقيادة جديدة، أكثر وعيًا، أكثر إنسانية، أكثر حياة.
ومن خلال هذه المحاضرة القيمة أحببت أن أشارككم من وجهه نظري بعض الدروس المستفادة التي يمكن أن نبدأ بتطبيقها في حياتنا واحدة تلو الأخرى لنخرج بعادات مفيدة وذات قيمة في حياتنا يتعلمها الأخرون منها و من ممارستنا لها وكأننا شعلة منيرة للأخرين:

1. خصص “ساعة مقدسة” يومياً لنفسك، لا تتهاون في تخصيص ساعة يومية بعيداً عن العمل والعائلة، تكون لك وحدك. اقرأ، تأمل، امشِ، أو افعل ما يشعرك بالاستمتاع الحقيقي. هذه الساعة هي وقود يومك. أنصت لصوتك الداخلي قبل أن تصغي للضجيج الخارجي، عندما تشعر بالإرهاق أو التشتت، لا تواصل الركض. توقف واسأل: “هل ما أفعله الآن يعبر عني؟ أم عن توقّعات غيري؟”
2. تعلم فن التفويض الذكي، لا تحتكر المهام، فوّض بحكمة. اختر الأشخاص المناسبين بناء على الخبرة أولاً، ثم ابني الثقة معهم. تذكر أن التفويض فرصة لنمو فريقك.
3. سمّ الأمور بمسمياتها الحقيقية، كن شجاعاً في الاعتراف بواقعك. لا تسمي الإرهاق “اجتهاداً”، ولا تبرر الإهمال بأنه “ثقة”. الشفافية مع الذات أساس التوازن.
4. احتفظ بحقك في اتخاذ القرار، استمع للنصائح، ولكن لا تسمح للآخرين باتخاذ قراراتك المصيرية. أنت الأدري بحياتك وطموحاتك.
5. اعترف بحدود طاقتك، توقف عن محاولة إنجاز المستحيل. ركز على ما تستطيع فعله بشكل ممتاز بدلاً من إرهاق نفسك بمحاولة فعل كل شيء.
6. عش غضبك ثم تجاوزه، لا تكبت مشاعرك، ولكن لا تجعل الغضب يتحكم فيك. امنح نفسك الحق في الغضب، ثم استجمع قواك للمضي قدماً.
7. ابحث عن مصادر القوة حولك، لا تخجل من طلب الدعم. تواصل مع أصحاب الخبرة والطاقة الإيجابية في محيطك، واطلب منهم العون عندما تحتاج.
8. تقبل لحظات ضعفك، لا تقسُ على نفسك. الضعف الإنساني طبيعي، وهو ما يجعلك أكثر فهماً للآخرين. تعلم من هذه اللحظات بدلاً من إنكارها.
9. كن مرناً في القيادة، كما قال د. طارق: “ثبت شخصيتك لا أقدامك”. حافظ على مبادئك، ولكن كن مستعداً للتكيف مع المتغيرات، ثبّت جوهرك… لا موقعك، المناصب تتغير، الظروف تتبدل، لكن شخصيتك هي حصنك. ابنِ قيادة تستند إلى قيم ثابتة، لا إلى كراسي متحركة.
10. ازرع قادة لا أتباعاً، لا تخشى مشاركة خبراتك. ساعد الآخرين على النمو، واجعل من معرفتك منارة يستفيد منها الجميع. القيادة الحقيقية تترك إرثاً من القادة الجدد.

التوازن ليس هدفاً نهائياً تصل إليه، بل هو رحلة يومية من الوعي والاختيارات الواعية. ابدأ بتطبيق نصيحة واحدة اليوم، ثم أضف أخرى غداً، حتى تصبح هذه المبادئ أسلوب حياة وفي أرض اللؤلؤ، نحن لا نبحث عن قادة يصرخون في المنصات، بل عن أولئك الذين يعيشون القيادة كما تُعاش الحياة… بنَفَس، وتوازن، ووعي.
إلى اللقاء في أرض اللؤلؤ…

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى