من العريش.. مصر تكتب بدمها وصوتها شهادة الحق

كتب /شحاته زكريا

في لحظة فارقة كان يمكن أن تمر كحدث بروتوكولي عادي اختارت مصر أن تكتب موقفها من دماء الفلسطينيين لا بالحبر ، بل بالفعل والمشهد والكلمة. اصطحب الرئيس عبد الفتاح السيسي نظيره الفرنسي إيمانويل ماكرون إلى العريش المدينة التي لم تكن يوما مجرد نقطة على الخريطة بل كانت دوما بوابة المواجهة والمروءة.
لم يكن المشهد عاديا رئيس فرنسا يرى بأم عينيه أطفالا جُرحوا في قصف إسرائيلي ، بينما الرئيس المصري يُطلعه على تفاصيل الواقع ، لا كما تنقلها وكالات الأنباء بل كما يشعر بها الممرض والطبيب والجريح في غرف الطوارئ. كانت الجولة في مستشفيات العريش أقوى من ألف بيان وأصدق من أي مؤتمر صحفي.
هذه ليست زيارة بل شهادة .. شهادة أن مصر حين تسكت الأصوات ترفع صوت الضمير. وأنها لا تمارس العمل الإنساني كوظيفة دبلوماسية بل كعقيدة وطنية متجذرة في الوجدان منذ أن كان اسمها يُقرن بالنصرة لا بالخذلان.
من العريش بعثت القاهرة برسائل غير قابلة للتأويل: لن نُساوي بين الجلاد والضحية. لن نجامل حين يُذبح الأبرياء. لن نشارك في حفلات التبرير أو ندوات التوازن الكاذب. الموقف المصري بات واضحا : غزة تحت القصف إذًا العالم مطالب بأن ينحاز للإنسان لا للمتسبب في مأساته.
في العريش لم تكن الكاميرات توثق حدثا ، بل كانت تشهد على درس أخلاقي في زمن انكشفت فيه عورات كثير من القوى الكبرى. رئيس أوروبي يلتقي جرحى العدوان ، في حضرة قائد دولة اختار أن يضعه أمام الحقيقة لا أمام أوراق الاجتماعات ومن هنا جاءت قيمة الرسالة.
مصر لا تتاجر بالقضية بل تحميها لا تساوم على دم فلسطيني ولا تفتح بوابتها لتفاوض على حساب الألم. الدور المصري ليس محايدا بل منحاز للعدل منحاز للإنسان. وعندما تكون الوساطة مصرية فهي تعني إنقاذ الأرواح ، لا تدوير الزوايا.
قد يكون العالم قد اعتاد صور المعاناة لكن مصر أصرّت أن تضع المجتمع الدولي في مواجهة مرآته الأخلاقية. زيارة العريش لم تكن مجرد خطوة بروتوكولية، بل مشهد سياسي وإنساني يستحق أن يُدرّس: كيف يمكن لدولة أن تستخدم قوتها الناعمة لتُوقظ الضمير العالمي ، دون ضجيج وبلغة لا تحتاج إلى ترجمة.
وفي ظل كل ذلك بقيت القاهرة كما هي: لا تغلق معبرا أمام مصاب ، لا ترد جريحًا ، لا تتاجر بالصورة. تقدم الدعم بصمت، وتدير الأزمة بحكمة، وتتحمل ما لا تتحمله دول ذات أبواق مدوية. والدرس واضح: حين يُقصف الأبرياء لا مجال للحياد بل للكرامة فقط.
ختاما من العريش خرجت مصر برسالة لا يُمكن للعالم تجاهلها: إذا غابت العدالة من مراكز القرار فإنها تُولد من رحم الألم في مستشفى ميداني. وإذا صمت العالم فإن مصر تتكلم.. ليس ببيان بل بفعل لا تملكه إلا دولة اختارت أن تكون في صف الإنسان مهما كان الثمن.