في لحظة الانكسار… تُولد القوة – هاله المغاورى فيينا

في رحلة الحياة، لا يقف الإنسان دائمًا على قمم الإنجاز، بل كثيرًا ما يجد نفسه في وديان من التعب والانكسار. تلك اللحظات التي تتثاقل فيها الخطى، ويهمس العقل بالتراجع، لا تأتي عبثًا. إنها اللحظات التي تُكشف فيها معادن الأرواح، وتتجلّى فيها قوة الإرادة.
إنها مفارقة الحياة العجيبة: حين نظن أننا على وشك الانهيار، نكون في الحقيقة على أعتاب التحوّل. فهناك، في عمق الشعور بالضعف، تُولد بذور الصلابة… وهناك فقط، يُعرَف الإنسان على حقيقته.
تأتي في عمر كل إنسان لحظة تبدو وكأنها نهاية، لحظة تنكمش فيها الروح ويبهت فيها الأمل، وتغدو الأحلام عبئًا لا طاقة لنا على حمله. لحظة يتنازع فيها القلب بين الرغبة في الاستمرار ونداء الاستسلام الخفي. عند هذه الحافة من الضعف، يُولد سؤال حاسم: هل أستمر، أم أنسحب؟
لكن ما لا يُقال كثيرًا هو أن هذه اللحظة ليست نهاية… بل بداية خفية. إنها لحظة الاختبار الأعمق، لحظة مواجهة الذات الحقيقية. عندما يشعر الإنسان أنه لا يستطيع أن يكمل، ثم ينهض رغم ذلك، فإنه لا يتقدم فحسب، بل يتجاوز شيئًا داخله، يتجاوز حدوده القديمة، ويتحوّل من كائن مكسور إلى إنسان أقوى، أنضج، وأكثر وعيًا بذاته.
السقوط ليس عيبًا، بل ضرورة إنسانية. إنه فرصة لإعادة اكتشاف الذات، لصقل الإرادة، وللتأمل في معنى الطريق. من لم يسقط، لم يعرف بعد معنى النهوض. والذين نهضوا بعد عثراتهم، لم يعودوا كما كانوا؛ صاروا أكثر عمقًا، أكثر صبرًا، وأكثر إدراكًا لقيمة الحياة. الشخص الذي ينهض مرة بعد مرة، لا لأنه لم يتألم، بل لأنه آمن بأن وراء الألم حكمة، وبأن في القلب طاقة تكفي لعبور المستحيل، هو شخص يمشي في الحياة لا بجسده فقط، بل بروحه المضيئة.
هكذا، لا يُقاس الإنسان بعدد خطواته الواثقة، بل بعدد المرات التي سقط فيها ثم قرر أن يواصل السير، وإن كان مثقلًا بالجراح. إن النهوض بعد السقوط ليس مجرّد فعلٍ جسدي، بل هو تعبير فلسفي عميق عن الإيمان بالمعنى، بالرغبة في الوجود، وبإرادة العبور.
في لحظة الانهيار، يصبح الخيار بين أن نكون أو لا نكون… ومن يختار “أن يكون”، رغم كل شيء، يكتب سطور وجوده بحبر الشجاعة، ويصبح أكثر من مجرد كائن حيّ؛ يصبح إنسانًا واعيًا، حقيقيًا، قادرًا على أن يصنع من العتمة معنى، ومن الوجع ضوءًا.