مقالات وآراء

بغداد تُحرّك الرمال.. هل يستيقظ الجسد العربي؟

لا شيء يبعث على الأمل مثل أن ترى علم العراق مرفوعا في قمة عربية دون رهبة أو وصاية ، بعد سنوات من الانكفاء والخذلان. قمة بغداد ليست فقط احتفالا بموقع جغرافي عائد إلى مركزه بل هى – في جوهرها – لحظة اختبار حقيقي لقدرة العرب على تجاوز زمن الوصاية والانقسام والخرائط البديلة التي رُسمت لهم على طاولات الآخرين.

لقد جاءت القمة في لحظة إقليمية فارقة ، حيث تتراجع الأدوار الإقليمية التقليدية لصالح توازنات جديدة. إيران تواجه ضغوط الداخل والخارج ، تركيا تعيد ترتيب أولوياتها، وإسرائيل في حالة استنزاف ممتد من غزة إلى الحدود الشمالية. أما العرب فإنهم على مفترق طرق: إما أن يستثمروا هذا الفراغ لصياغة مشروع إقليمي بقيادتهم ، أو يستسلموا لواقع التبعية والمراوحة.

ما جرى في بغداد لا يُقاس ببيان ختامي مكرر أو صور بروتوكولية بل برمزية الحدث نفسه: عودة العراق لاعبا وعودة سوريا طرفا ، وبلورة موقف موحد – ولو نسبيا – إزاء القضية الفلسطينية. لكن التحدي الأكبر لا يزال قائما: هل نملك الإرادة لتحويل هذا الإجماع العابر إلى سياسة مستدامة وأجندة تنفيذية واضحة؟

الحقيقة أن المنطقة تواجه تحديين متوازيين. الأول هو إنهاء الحرب في غزة كأولوية أخلاقية واستراتيجية. والثاني هو وقف نزيف الدول العربية المتآكلة من الداخل من السودان إلى ليبيا مرورا باليمن والصومال. وهنا لا يكفي أن نصدر بيانات دعم بل يجب خلق آلية عربية فاعلة ذات صلاحيات تُخاطب الأطراف المحلية وتستوعب اللاعبين الدوليين لا تكتفي بالتصريحات ولا تُدار بالهواجس.

المعادلة باتت واضحة: لا شرق أوسط مستقر دون دولة فلسطينية. ولا مشروع عربي ناجح دون إطفاء حرائق الداخل. أما ترك الأمور على حالها ، فهو وصفة مؤكدة لانفجارات قادمة وربما تقويض ما تبقى من النظام العربي.

لعل أبرز ما كشفت عنه قمة بغداد هو التباين بين الخطاب السياسي والواقع التنفيذي. نحن نتحدث عن تنمية وتكامل بينما تغيب الإرادة الاقتصادية المشتركة، ونتحدث عن الأمن القومي العربي بينما لا تزال الجيوش العربية تُستهلك في معارك داخلية أو حسابات إقليمية. إنها لحظة تحتاج إلى شجاعة سياسية لا مجرد إدارة توازنات.

ومع ذلك فإن الأمل لا يزال ممكنا. السعودية ومصر والإمارات تلعب دور القلب النابض في هذا التحول ، وتدرك أن تحصين المنطقة لا يتحقق بالوساطات وحدها ، بل بمشروع متكامل يربط الأمن بالتنمية والسيادة بالتكامل ، والمصالح بالهوية. والأهم أن هذا المشروع لا يمكن أن يكتمل من دون عودة العراق وسوريا إلى المسار العربي ، ليس كمفعول به بل كفاعل أساسى في بناء التوازن الإقليمي.

لقد أتت قمة بغداد كرسالة بأن العرب لم ينتهوا ، لكن هذه الرسالة لن تكتمل ما لم تتحول إلى مسار دائم وآليات متابعة، ومشروعات ملموسة. فلن يغفر التاريخ لهذا الجيل أن يرى النوافذ تُفتح ثم يُدير ظهره عنها.

الفرصة الآن متاحة كما لم تكن من قبل. والعالم ينصت. واللحظة ناضجة. فهل تكون بغداد بداية طريق لا نهاية مؤتمر؟

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى