مقالات وآراء

أوروبا والشرق الأوسط.. ما بعد الحرب وما بعد الحياد

لم تكن حرب غزة الأخيرة مجرد مواجهة عسكرية مأساوية تنضاف إلى سجل الصراع العربي الإسرائيلي بل كانت كاشفة لتحولات عميقة في بنية النظام الإقليمي ، بل والنظام الدولي برمّته. في قلب هذه التحولات تقف أوروبا لا باعتبارها قوة عظمى بالمعنى التقليدي ، بل بوصفها طرفا ظل طويلا في موقع “الحياد المريح” ، قبل أن تجد نفسها — لأول مرة منذ عقود — أمام اختبار أخلاقي واستراتيجي لا يمكن تفاديه.

لعل أبرز ما أفرزته الحرب ليس فقط ما تعرّت به الآلة الإسرائيلية أمام الكاميرات من عنف غير مبرر بل ما بدا من ارتباك عميق في المواقف الغربية، خصوصا الأوروبية التي وجدت نفسها فجأة أمام رأي عام داخلي لم يعد يقبل التفسير التقليدي للصراع ، ولا يشتري سردية “الدفاع عن النفس” في مواجهة صور المجازر والدمار والمجاعة.

لقد خرجت أصوات من داخل أوروبا ، ليست من الهامش بل من صلب المؤسسات الحاكمة تنتقد إسرائيل علنا وتطالب بوقف إطلاق النار بل وتتهم حكومة نتنياهو بارتكاب جرائم حرب. صحيح أن المواقف الرسمية للدول الكبرى كفرنسا وألمانيا ظلت محافظة لكنها اضطرت لموازنة خطابها وإرسال رسائل مزدوجة للداخل والخارج. حتى بريطانيا التي لطالما بدت في جيب واشنطن ، شهدت أكبر تظاهرات داعمة لفلسطين في تاريخها.

هذه التحولات لا يمكن عزلها عن متغيرين رئيسيين: أولا، التآكل المتسارع في صورة إسرائيل كـ”دولة قانون” و”واحة ديمقراطية” في محيط مضطرب وهو ما انهار تحت ضغط العدسات وشهادات المنظمات الدولية. وثانيا الصعود المتزايد لقوى دولية وإقليمية جديدة — كالصين وروسيا وتركيا وإيران — جعلت من الدعم الأعمى لتل أبيب خيارا مكلفا أكثر من كونه استثمارا استراتيجيًا مضمون العوائد.

وفي المقابل برزت دول عربية كمراكز ثقل جديدة ليست فقط في التفاوض بل في صياغة خطاب سياسي أكثر اتزانا. مصر مثلا استعادت دورها التقليدي كضامن إقليمي وحلقة وصل موثوقة بين الشرق والغرب ، بينما عززت السعودية والإمارات مكانتهما كدول لا تكتفي بالتمويل أو البيانات ، بل تمارس تأثيرا مباشرا في موازين القوى عبر أدوات سياسية واقتصادية وإعلامية.

لكن السؤال الأهم الآن: هل تكفي هذه المؤشرات لصياغة خريطة نفوذ جديدة؟
الإجابة تظل مشروطة بقدرة اللاعبين الجدد — عربا وأوروبيين — على تحويل لحظة التعاطف والرفض الأخلاقي إلى مواقف سياسية مؤسسية ، تقطع مع منطق “إدارة الأزمة” لصالح “حل الصراع”. أوروبا تحديدا مطالبة بأن تتحرر من ظلال الحرب الباردة ، وتتعامل مع الشرق الأوسط ليس كمسرح تنافس مع واشنطن أو موسكو بل كإقليم استقرار ضروري لأمنها القومي ، وأمن جالياتها واستدامة قيمها.

التحولات الكبرى تبدأ غالبا من الهامش. والشرق الأوسط الذي اعتاد أن يكون ضحية خرائط تُرسم في الغرف المغلقة، يبدو اليوم أقرب من أي وقت مضى إلى أن يكون شريكا حقيقيا في صياغة الخريطة. فقط إن أحسن قراءة اللحظة وامتلك أدوات الفعل لا ردّ الفعل.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى