مقالات وآراء

بين المطرقة والسندان.. لماذا يهاجر الأطباء؟

كتب /شحاته زكريا

في الوقت الذي تعاني فيه المنظومة الصحية من نقص حاد في الكوادر ، يخرج علينا من يقترح تقييد سفر الأطباء ، أو إلزامهم برد نفقات تعليمهم إذا قرروا المغادرة. اقتراحات براقة في ظاهرها لكنها في جوهرها اعتراف رسمي بالفشل في كسب ثقة الأطباء ، ومحاولة يائسة للسيطرة على أزمة لا تُحل بالأوامر بل بالإصلاح.

هجرة الأطباء ليست أزمة جديدة لكنها صارت تنذر بالخطر. بحسب نقابة الأطباء ، فإن أكثر من 60% من الأطباء المقيدين لا يعملون في مصر ومعدل الاستقالات في تزايد مستمر ، بينما عدد الأطباء إلى عدد السكان أصبح دون الحد الآمن. وهذه الأرقام ليست مجرد إحصاءات ، بل ناقوس خطر يدق على أبواب المستشفيات العامة والجامعية التي باتت تفتقد الخبرة والتخصص في وقت واحد.

لكن لماذا يرحل الأطباء؟ هل لأنهم طماعون؟ جاحدون؟ غير وطنيين؟ هذا هو الاتهام السهل الجاهز دائما عند العجز عن الفهم. الحقيقة أبسط من ذلك وأقسى: الطبيب في مصر يُهان في بيئة عمل لا تليق يُضرب في طوارئ المستشفى ولا يجد حماية قانونية يتقاضى أجورا لا تكفي لتأمين حياة كريمة ويُطالب بمعجزات في ظل نقص الإمكانيات. ثم ننتظر منه أن يضحّي ويصبر ، ويُمنع من السفر.

ما نحتاجه ليس حظر سفر بل إصلاح شامل. نحتاج أن نعيد هيبة الطبيب ، ونعيد بناء الثقة بين الدولة والعاملين في قطاع الصحة. نحتاج تشريعات تحميهم ومستشفيات مجهزة وأجورا تليق بدورهم ، وتدريبا يواكب التطور العلمي. نحتاج أن يشعر الطبيب أن بلده تريده لا أنه عالة أو عبء.

الحديث عن أن الدولة أنفقت على تعليمه لا يصمد أمام الواقع. الطبيب المصري يتخرج من كلية الطب بعد سبع سنوات مرهقة ثم يقضي سنوات أخرى في العمل بالمستشفيات الحكومية بأجر رمزي أو دون أجر. لقد سدد فاتورة تعليمه بالفعل وأضفى على المنظومة ما لا يُقدّر بثمن من جهده ووقته وخبرته.

تجارب الدول الأخرى تعلمنا أن الاحتفاظ بالطبيب لا يتم بالتقييد بل بالحوافز. المملكة المتحدة، ألمانيا، ودول الخليج، تجذب الأطباء المصريين لأنها تمنحهم ما لا يجدونه هنا: التقدير، والفرصة، والكرامة. فلماذا لا نتعلم من تلك التجارب بدلاً من أن نعاقب الضحية؟

الطبيب ليس موظفا عاديا. هو جندي في معركة الحياة لا تقل أهميته عن أي فرد في الجيش أو الشرطة أو التعليم. وإذا كنا نطمح لدولة قوية فلابد أن نبدأ من الصحة. لا تنمية بلا طب ولا طب بلا طبيب مطمئن.

اللحظة تتطلب شجاعة في القرار لا مسكنات تشريعية. تتطلب مواجهة جذرية للواقع لا تغليفا للمشكلة في ورق وطني جميل. فهل نملك هذه الشجاعة؟ وهل نختار الطريق الصعب الصحيح ، أم نستمر في الطريق السهل الخطأ؟

الطبيب لن يبقى لأننا منعناه. سيبقى حين نُقنعه بالبقاء. وحينها فقط نكون قد أنقذنا الطبيب… والمريض أيضا.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى