دعوة عالمية لليقظة ضد الكراهية والتطرف في ذكرى تحرير ماوتهاوزن ال 80 هاله المغاورى فيينا

في لحظة يقظة جماعية وتعبير صامت عن الألم والمسؤولية، شهد معسكر الاعتقال النازي السابق في ماوتهاوزن، شمالي النمسا، واحدة من أكبر الفعاليات التذكارية في أوروبا لإحياء ذكرى تحريره قبل ثمانين عامًا. نحو 20 ألف شخص، من وفود رسمية وشعبية من مختلف أنحاء العالم، اجتمعوا يوم الأحد في المكان الذي كان شاهدًا على واحدة من أبشع الجرائم ضد الإنسانية في القرن العشرين.
الحدث، الذي جاء تحت شعار: “معًا من أجل ألا يتكرر ذلك أبدًا”، لم يكن مناسبة للتأبين فحسب، بل منصة لتحذير العالم من تكرار الكراهية المنظّمة، ومناسبة لتأكيد أن ذاكرة الضحايا ليست مادة أرشيفية، بل أداة فعالة لمواجهة الحاضر.
تميزت مراسم هذا العام بحضور لافت على مستوى القادة، تقدمهم الملك فيليبي السادس والملكة ليتيثيا من إسبانيا، والرئيسة الكوسوفية فيوسا عثماني، إلى جانب الرئيس النمساوي ألكسندر فان دير بيلين وعدد كبير من المسؤولين النمساويين. وقد شارك هؤلاء دون كلمات رسمية، في طقس صامتٍ يعكس الاحترام والتأمل، تماشيًا مع التقاليد التي رسختها لجنة ماوتهاوزن عبر السنوات.
هذا الصمت، كما أشار الرئيس النمساوي في بيانه، يحمل معاني التذكّر والاعتراف بالذنب الجمعي الذي كان الصمت والتغاضي أول بوادره قبل أن تتحول معاداة السامية والعنصرية إلى سياسات ممنهجة.
ومن أبرز لحظات المراسم كانت مشاركة ثلاث شخصيات تُعرف باسم “أطفال ماوتهاوزن” – هانا بيرغر-موران، ومارك أولسكي، وإيفا كلارك – وُلدوا في الأسابيع الأخيرة قبل التحرير، داخل المعسكر أو على طريق التهجير. قصص هؤلاء تُجسد الجانب الإنساني الحي من الكارثة، وتُعطي للذاكرة وجهاً ملموساً لا يمكن محوه أو تجاهله.
في تصريحات بالغة القوة، حذّر أوسكار دويتش، رئيس الطائفة اليهودية في فيينا، من تنامي موجة العداء لليهود، معتبرًا أن أنظمة مثل إيران وحركات مثل حماس تُجسد امتداداً أيديولوجياً للنازية. وفي هذا السياق، شدد على أن التحريض المتواصل ضد اليهود ليس مجرد خطاب كراهية، بل خطر وجودي يتطلب مواجهة صريحة.
من جانبه، قال فيلي ميرنيي، رئيس لجنة ماوتهاوزن، إن المعرفة بالتاريخ تُلزم الأجيال الحالية بتحمل المسؤولية، مضيفًا: “قد يكون البعض في الماضي لم يدرك إلى أين قد يقود الكره والانقسام، أما نحن، فنحن نعرف”.
وفي خطاب يحمل بعدًا دوليًا، دعا غي دوكندورف، رئيس اللجنة الدولية لماوتهاوزن، إلى مواجهة صعود اليمين المتطرف حول العالم، مطالبًا الشباب بحمل راية الديمقراطية، وسيادة القانون، وحرية التعبير.
المراسم بدأت بصلاة مسكونية شارك فيها ممثلو ديانات مختلفة، في خطوة تؤكد البعد الإنساني والأخلاقي للحدث. وذكّر الأسقف اللوثري ميخائيل شالوبكا بأن الجرائم التي ارتُكبت في معسكرات مثل ماوتهاوزن كانت سببًا مباشرًا في صياغة مفاهيم حقوق الإنسان والقانون الدولي، محذرًا من مخاطر الصمت أمام انتهاكات الحاضر.
وجدير بالذكر ان معسكر ماوتهاوزن (جحيم صناعي ) أنشئ معسكر ماوتهاوزن عام 1938، وامتد لاحقًا إلى شبكة ضمت أكثر من 40 معسكرًا فرعيًا. احتُجز فيه حوالي 200 ألف شخص من أكثر من 40 جنسية، توفي منهم قرابة النصف بسبب العمل القسري، وسوء المعاملة، والتجويع، والإعدامات. وقد تم تحرير المعسكر في 5 مايو 1945 على يد القوات الأمريكية، ليبقى شاهدًا صامتًا على واحدة من أفظع فصول التاريخ الإنساني.
يُعد الحفل السنوي لتحرير ماوتهاوزن أكبر فعالية تذكارية في النمسا، ويترافق مع فعاليات مماثلة في مواقع معسكرات فرعية مثل غوسن وإيبنزيه وملِك، بالإضافة إلى “عيد الفرح” الذي أقيم الأسبوع ذاته.
وفي ظل التحديات العالمية الراهنة – من تنامي القومية المتطرفة، إلى تراجع الثقة في المؤسسات الديمقراطية – يأتي هذا الحدث كتأكيد على أن الذاكرة ليست نهاية الحكاية، بل بدايتها. إنها صرخة جماعية تقول: “لقد عرفنا، ولن نسمح بعودة الظلام”.
ختامًا، تذكّر ماوتهاوزن ليس مجرد واجب أخلاقي تجاه الضحايا، بل خط دفاع أول في مواجهة كل من يسعى لإعادة إنتاج الكراهية باسم العرق أو الدين أو الانتماء. وبين الصمت والكلمات، تقف الإنسانية أمام مرآتها – هل ستتعلم حقًا من التاريخ، أم تكرره؟