حين تصمت البنادق وتبدأ معركة الوعي .

كتب/شحاته زكريا
في التاريخ كانت الحروب تُقاس بعدد القتلى والمسافات التي تغيرت على الخرائط ، لكن الحقيقة الأعمق أن معظم المعارك الحاسمة لم تُحسم في الميدان بل في العقول. البنادق تُسكت أصواتها عاجلا أو آجلا.أما الأفكار فتظل حية، تتسلل عبر الأجيال ، وتعيد تشكيل الواقع حتى بعد أن يطوي الغبار ساحة القتال.
اليوم يقف العالم على أعتاب مرحلة مختلفة حيث لم تعد القوة الصلبة وحدها هي الفيصل ، بل القدرة على بناء الوعي وتحصينه. فما جدوى النصر العسكري إذا ضاعت الرواية الحقيقية وتحوّل المنتصر إلى مهزوم في ذاكرة الشعوب؟ وما قيمة البقاء إذا خسرنا معركة إدراكنا لما يحدث حولنا؟
حين تتوقف الحرب التقليدية تبدأ حرب أخرى لا تقل ضراوة لكنها لا تحتاج لدبابات أو طائرات بل إلى وعي نقدي وإدراك عميق وقدرة على قراءة المشهد بعيدا عن الضجيج. هذه الحرب نواجهها يوميا أمام الشاشات في ساحات التواصل الاجتماعي وفي الخطاب الذي يتسرب إلى وجدان الناس.
الوعي هو الدرع الأصدق لأي أمة. يمكن أن تضعف الجيوش لبرهة ، لكن إذا بقيت العقول صلبة ، فإن الأمة قادرة على النهوض مجددا. وعلى العكس قد تمتلك دولة أقوى الأسلحة لكنها إذا خسرت معركة الوعي فإنها تبدأ رحلة الانحدار.
التاريخ يعطينا شواهد كثيرة. كم من دولة انتصرت في الميدان وخسرت نفسها حين فقدت القدرة على صياغة روايتها أو تركت غيرها يكتب التاريخ بالنيابة عنها. وكم من أمة تعرضت لهزائم متتالية لكنها صانت ذاكرتها فبقيت حاضرة حتى عادت قوية.
معركة الوعي هي معركة بناء الإنسان قبل أي شيء. وهي مسؤولية مشتركة بين المدرسة التي تُعلّم النقد قبل الحفظ، والإعلام الذي يقدّم المعلومة قبل الإثارة والمثقف الذي يثير الأسئلة بدلا من الاكتفاء بالإجابات الجاهزة. هذه المعركة لا يربحها صاحب الصوت الأعلى ، بل صاحب الحجة الأعمق والفكرة الأصدق.
في زمن الانفتاح المعلوماتي لم تعد هناك جدران تحجب الأفكار لكن هناك حصونا يمكن أن تحمي العقول: التعليم الراسخ الثقافة النقدية والانتماء الحقيقي. وهنا يأتي دور كل فرد لأن معركة الوعي لا يحسمها جيش من الجنود بل ملايين من المواطنين الواعين الذين يميزون بين الحقيقة والتضليل.
الأمم التي تدرك قيمة هذه المعركة تسعى دائما لرفع منسوب وعي شعوبها لا لقمعه. فهي تعرف أن الإنسان الحرّ الواعي هو أقدر على حماية وطنه من أي خطر وأقدر على مواجهة خطاب الكراهية والتشويه.
حين تصمت البنادق تظل الكلمات والرموز والصور في الميدان. والخطأ الأكبر أن نتصور أن السلام وحده كفيل بضمان الاستقرار. فالسلام الذي لا يرافقه وعي هو سلام هش يمكن أن تهزه شائعة أو يشعل فتيله مقطع مُفبرك.
معركة الوعي ليست خيارا بل قدر كل أمة تريد البقاء. وهي ليست معركة ضد الآخر فقط بل معركة مع النفس أولا: مع الجهل ومع الاستسلام ومع تزييف الحقائق الذي قد يتسلل حتى من الداخل.
والأجمل في هذه المعركة أنها لا تحتاج موارد ضخمة بقدر ما تحتاج إرادة. إرادة لتعلّم أبنائنا كيف يفكرون لا ماذا يفكرون. إرادة لقراءة الأخبار بعين فاحصة ، لا بعين المستهلك السلبي. إرادة لصنع محتوى يحترم العقول بدلا من استنزافها.
في النهاية يمكن أن نخسر أرضا ونستعيدها لكن إذا خسرنا العقول فلن نجد ما نستعيده. لهذا حين تصمت البنادق فلنستعد جيدا للجولة الأخطر… جولة الوعي التي تحدد شكل المستقبل وتقرر إن كنا سنعيش أمة حرة ، أو نبقى أسرى روايات يكتبها الآخرون