العملات الرقمية والبنوك المركزية الإطار القانوني المحتمل للعمله الرقمية للبنك المركزي CBDC

العملات الرقمية والبنوك المركزية الإطار القانوني المحتمل للعمله الرقمية للبنك المركزي CBDC
بقلم
المستشار الدكتور / محمد ليمونة
دكتور القانون التجاري الدولي
العملات الرقمية للبنوك المركزية تمثل تحولا جوهريا في مفهوم النقود الرسمية فهي ليست عملة خاصة ولا عملة مشفرة لامركزية بل هي التزام إلكتروني يصدر عن البنك المركزي بشكل مباشر ويمكن أن يتداول بين الجمهور أو بين المؤسسات المالية وفقا للتصميم المعتمد وهذا التحول يفتح آفاقا واسعة على المستويين التقني والاقتصادي ولكنه في ذات الوقت يطرح أسئلة قانونية معقدة تتعلق بسلطة الإصدار ومكانة هذه العملة كأداة دفع قانونية وحماية الخصوصية ومسؤولية الوسطاء وآليات مكافحة غسيل الأموال وتأثيرها على الاستقرار المالي وقدرتها على العمل في البيئات العابرة للحدود
العملات الرقمية للبنوك المركزية المعروفة باسم CBDC تأخذ أنماطا مختلفة فقد تكون موجهة للجمهور الواسع أو مقتصرة على التعاملات بين البنوك والمؤسسات المالية كما يمكن تصميمها كنظام قائم على الحسابات يشبه فتح حسابات لدى البنك المركزي أو كنظام قائم على الرموز الرقمية التي تمثل وحدات نقدية مملوكة للمستخدم وكل تصميم من هذه التصاميم يفرض وضعا قانونيا مغايرا ويؤثر على طبيعة الإثبات والمسؤولية وحجية التعاملات
الدوافع لإصدار هذه العملات متعددة فهي تهدف إلى حماية السيادة النقدية ومواجهة هيمنة شبكات الدفع الخاصة أو العملات العالمية المشفرة وتحسين كفاءة أنظمة الدفع وخفض تكاليف المعاملات ودعم الشمول المالي وتقديم أدوات جديدة للسياسة النقدية وكل هذه الأهداف تستلزم إطارا تشريعيا واضحا يضمن التوازن بين الابتكار والحماية القانونية
الإشكاليات القانونية تبدأ من غياب نصوص صريحة في معظم قوانين البنوك المركزية تخول إصدار التزامات رقمية للجمهور الأمر الذي يتطلب تعديلات تشريعية تحدد بوضوح طبيعة العملة الرقمية وصلاحيات البنك المركزي في إصدارها وإدارتها ثم تأتي مسألة الاعتراف بها كأداة دفع قانونية وهو ما يستلزم تعديل قوانين الالتزامات المدنية والضرائب وتنفيذ الأحكام لتشمل النص على العملات الرقمية إلى جانب النقد الورقي
كما أن توزيع الأدوار بين البنك المركزي والوسطاء من البنوك أو مزودي خدمات الدفع يثير تساؤلات حول حدود المسؤولية والتعويض عن الأخطاء أو الاختراقات أما من حيث الخصوصية فإن تصميم أنظمة الدفع الرقمية يثير تعارضا محتملا مع قوانين حماية البيانات ما يفرض ضرورة إدراج قواعد واضحة لمعالجة بيانات المعاملات وآليات الاطلاع القضائي وحدود الاحتفاظ بالمعلومات وتحديد إجراءات الأمن السيبراني واختبارات الاستمرارية التشغيلية
في مجال مكافحة غسيل الأموال وتمويل الإرهاب لا بد من تعديل التشريعات الوطنية لتشمل العملات الرقمية الصادرة عن البنك المركزي ضمن نطاق التعريفات المقررة وفرض آليات الإبلاغ عن المعاملات المشبوهة مع اعتماد نهج متدرج يوازن بين الامتثال وتعزيز الشمول المالي أما على صعيد الاستقرار المالي فإن إتاحة هذه الأداة للجمهور قد تؤدي في أوقات الأزمات إلى تحويل الودائع من البنوك التجارية إلى المحافظ الرقمية للبنك المركزي وهو ما يستدعي نصوصا تمنح أدوات للحد من حجم المعروض أو تقييد المعاملات
على الصعيد الدولي يثير الاستخدام العابر للحدود قضايا تنازع القوانين والامتثال للعقوبات الدولية وضرورة التعاون مع البنوك المركزية الأخرى لتجنب استغلال هذه العملات للتحايل على القيود أو غسل الأموال كما أظهرت التجارب الدولية مثل تجربة جزر البهاما والنيجيريا والصين أن النجاح يتطلب تكامل التشريع مع البنية التقنية وإصدار لوائح تنفيذية مفصلة قبل التوسع في الإطلاق
الإطار التشريعي المقترح يتضمن تعديلا لقانون البنك المركزي لتعريف العملة الرقمية وصلاحية إصدارها وتنظيم علاقتها بالقوانين الأخرى وتحديد أدوار الفاعلين ومسؤولياتهم وإصدار لوائح تنظيمية تحدد متطلبات التسجيل لمزودي الخدمة ومعايير التحقق من الهوية وإجراءات حماية البيانات وآليات التعاون الدولي وإدراج قواعد واضحة للمسؤولية والتعويض وفرض تقارير دورية عن الأداء والاستخدام
في السياق المصري على سبيل المثال يمكن تعديل قانون البنك المركزي بشكل صريح وإصدار لوائح تنفيذية بالتنسيق مع جهاز حماية البيانات ووحدة مكافحة غسيل الأموال وإطلاق برامج تجريبية محدودة مع وضع نصوص طوارئ تشترط المراجعة التشريعية قبل التوسع الكامل وإدراج آليات قضائية للفصل السريع في النزاعات المتعلقة بالمحافظ الرقمية وضمان إمكانية التنفيذ على الأرصدة الرقمية
إن العملات الرقمية للبنوك المركزية ليست مجرد ابتكار تقني بل هي مشروع تشريعي وتنظيمي متكامل يتطلب أساسا قانونيا واضحا وحماية فعالة للخصوصية وامتثالا صارما لمعايير مكافحة الجرائم المالية وبنية تشغيلية محددة لتوزيع المسؤوليات وأي إصدار دون استيفاء هذه المتطلبات سيعرض النظام لمخاطر قانونية وعملية كبيرة ويجعل من الصعب تحقيق الأهداف الاقتصادية والاجتماعية المرجوة