مقالات وآراء

الاقتصاد تحت التابلت.. هل يتحول المواطن إلى وحدة استهلاك مُشفّرة؟

كتب /زكريا شحاته

لم يعد الاقتصاد علم الأرقام الثقيلة والنظريات المعقدة فحسب. اليوم صار الاقتصاد يتنفس من شاشة ويُدار عبر تطبيق ، ويُقاس بنقرة إصبع على تابلت صغير في يد مواطن لم يعد مجرد فرد بل بات خلية رقمية في شبكة استهلاك ضخمة. من هنا ينبثق السؤال الصادم: هل تحوّل المواطن من كائن بشري بقرارات مستقلة إلى وحدة استهلاك مُشفّرة تتحرك في حدود خوارزميات السوق وأوامر الاقتصاد الرقمي؟

في زمن أصبحت فيه المعاملات تُدار من التابلت والقرارات تُصاغ على شاشات لم يعد المواطن يذهب إلى السوق ، بل صار السوق يأتيه. بضغطة زر يشتري، ويقترض، ويدفع، ويستثمر، ويُراقب نفسه من خلال ما يُعرض عليه. تحول نمط الاستهلاك إلى تجربة رقمية كاملة لا يراها المتعامل كقرار اقتصادي واع ، بل كجزء من نمط حياة يُقدّم له على أنه الأسهل والأذكى والأكثر رفاهية.

لكن خلف هذه الواجهة المبهرة ثمة تغيّر جذري في العلاقة بين المواطن والاقتصاد. إذ لم يعد الإنسان يُعامل كفاعل حر في السوق ، بل كبيانات تتحرك ضمن نموذج استهلاكي مرسوم سلفا. التابلت الذي يحمل عليه تطبيقا مصرفيا أو متجرا إلكترونيا لا يقرأ فقط اختياراته ، بل يُغريه بخيارات مصممة مسبقا . أنت لا تشتري ما تريد بل ما يُقترح عليك بناء على تاريخك الرقمي، وسلوكك، وموقعك، وقدرتك الشرائية.

من هنا تظهر ملامح “الوحدة الاستهلاكية المشفّرة”. كل مواطن أصبح رقما في خريطة استهلاك ضخمة يُصنّف ويُحلّل ويُعاد توجيهه اقتصاديا في كل لحظة. شركات التقنية الكبرى تعرف عنك أكثر مما تعرفه عن نفسك وتملك القدرة على دفعك لشراء منتج أو الاشتراك في خدمة أو الاقتراض ببطاقة واحدة فقط: “الذكاء الاصطناعي”.

التحول لم يكن سلبيا بالكامل. فالعالم الرقمي فتح آفاقا هائلة للوصول السريع والمقارنة الذكية ، والتعاملات الشفافة. كما أنه مكّن الطبقات الوسطى والدنيا من أدوات مالية كانت حكرا على النخب. فاليوم المواطن البسيط يمكنه أن يُدير حسابه ويستثمر ماله ويقارن بين عشرات السلع في وقت واحد دون أن يغادر منزله. لكن السؤال الأعمق هو: من يدير من؟ هل يُدير المواطن هذا النظام الذكي؟ أم أن النظام هو من يُديره؟

الخطورة لا تكمن فقط في ضياع الإرادة بل في تحول مفهوم “الاختيار الحر” إلى وهم. فالمواطن الذي يظن أنه حر في اختياره لا يدرك أنه محاط بجدران شفافة من التوجيه الرقمي الذكي تقترح عليه، وتُقصيه، وتدفعه برفق نحو سلوك استهلاكي معين. ومع الوقت يصبح هذا المواطن أكثر قابلية للتنميط ، وأقل وعيا بالخيارات الحقيقية فيعيش داخل فقاعة استهلاكية تُغلفها الراحة، وتُغذيها البيانات.

من جهة أخرى تتحوّل الدولة نفسها في هذا السياق.من صانع للسياسة الاقتصادية إلى مزوّد خدمة رقمية. تقدم دعما عبر المحفظة الذكية وتحصل على الضرائب من التطبيقات وتراقب النشاط المالي من حركة المحافظ الإلكترونية. المواطن لم يعد فقط مستهلكا للسلعة بل مستهلكا للخدمة الحكومية الرقمية أيضا. وكلما زاد اعتماده على هذه المنظومة زادت قدرته على الاستجابة لها لكنها في الوقت ذاته تُحاصره ضمن منطق بياناتي لا يعترف بالاستثناءات أو الفروقات الإنسانية.

هذا كله يقودنا إلى معضلة فلسفية جديدة: هل ما زال للمواطن دور في توجيه الاقتصاد؟ أم أنه تحول إلى طرف منفعل داخل شبكة عملاقة من الخوارزميات التي تتنبأ برغباته وتُعيد تشكيلها؟ وإذا صحّ هذا فكيف نحمي الإنسان من الذوبان في عالم رقمي شديد الفعالية، لكنه قليل الرحمة؟

الحل لا يكمن في كسر التابلت بل في كسر وهم الحياد التكنولوجي. يجب أن ندرك أن كل تطبيق اقتصادي هو موقف سياسي أيضا. وأن تصميم الخيارات وترتيب القوائم، وتوجيه الإعلانات كلها قرارات تؤثر على السلوك وتُعيد تشكيل الوعي. المطلوب ليس العودة إلى السوق الورقي بل بناء وعي جديد يُمكّن المواطن من إدراك موقعه داخل هذه المنظومة واستعادة إرادته وسط طوفان من الإغراءات المُشفّرة.

لقد أصبح الاقتصاد في يد المواطن نعم لكن المواطن نفسه في يد اقتصاد رقمي لا يرحم الغافلين. والخيار ليس بين الرفض أو الاندماج بل بين الانصهار أو السيطرة. والمواطن الذي يفهم أدواته ويعي قيمته لا يمكن أبدا أن يتحول إلى مجرد رقم في شاشة أو وحدة استهلاك تُقاد بلا وعي. بل يبقى كما يجب أن يكون: صانع القرار لا مجرد منفّذه.

خالد حسين

رئيس مجلس إدارة موقع وجريدة أخبار السياسة والطاقة نائب رئيس مجلس إدارة موقع تقارير الأمين العام للجمعية العربية الأوروبية للتنمية المستدامة رئيس لجنة الإعلام بالجمعية المصرية للبيسبول والسوفتبول عضو بالمراسلين الأجانب عضو بالإتحاد الدولى للأدباء والشعراء

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى