مقالات وآراء

سلاسل الإمداد بعد العواصف.. هل يولد اقتصاد محلي جديد؟

كتب/شحاته زكريا

لم تكن العواصف التي ضربت العالم خلال السنوات الأخيرة مجرد تقلبات عابرة في أسواق التجارة أو النقل بل كانت زلازل اقتصادية حقيقية قلبت موازين سلاسل الإمداد العالمية. من جائحة كورونا التي أغلقت الموانئ والمطارات إلى الحرب في أوكرانيا التي أربكت حركة الطاقة والحبوب وصولا إلى التوترات المتصاعدة في شرق آسيا والبحر الأحمر؛ كلها أحداث أعادت طرح السؤال الكبير: هل انتهى زمن “العولمة المطلقة” وبدأ عصر “الاقتصاد المحلي الذكي”؟

لقد كشفت الأزمات المتتالية عن هشاشة الاعتماد الكامل على سلاسل توريد تمتد آلاف الكيلومترات. دول متقدمة وجدت نفسها عاجزة عن توفير كمامات وأدوية أساسية في ذروة الجائحة وأخرى وقفت في طوابير للحصول على القمح أو الوقود رغم ما لديها من ثروات مالية. هذه الصدمات جعلت فكرة “الاكتفاء المحلي” و”تنويع مصادر الإمداد” تعود إلى قلب النقاش الاقتصادي العالمي بعدما كان الاتجاه السائد هو الاندماج الكلي في الأسواق الدولية.

لكن من رحم الأزمات تولد الفرص. فاليوم نشهد تحولات إيجابية يمكن أن تعيد رسم خريطة الاقتصاد العالمي بطريقة أكثر توازنا. دول عديدة.في آسيا وأفريقيا وأمريكا اللاتينية بدأت تعيد التفكير في صناعاتها المحلية وتستثمر في الزراعة والتكنولوجيا والطاقة المتجددة ، ليس فقط لتقليل الاعتماد على الخارج بل أيضا لبناء اقتصاد قادر على الصمود أمام العواصف.

الاقتصاد المحلي الجديد لا يعني الانغلاق أو الانسحاب من الأسواق الدولية بل يعني بناء قاعدة إنتاجية وطنية متينة تضمن الحد الأدنى من الأمن الغذائي والدوائي والتكنولوجي ثم الانطلاق منها إلى المنافسة العالمية. فالعالم لن يعود إلى الوراء لكنه يتجه نحو توازن جديد بين المحلي والعالمي بين الاعتماد على الذات والتكامل مع الآخرين.

تجارب كثيرة تؤكد أن هذا التحول ممكن وملهم. الهند على سبيل المثال أطلقت مبادرات ضخمة لدعم الصناعات الدوائية والإلكترونية محليًا وحققت اكتفاء شبه كامل في بعض المجالات. أفريقيا بدأت تستثمر في الزراعة الذكية وسلاسل القيمة الزراعية بدلا من الاكتفاء بدور المورد للمواد الخام. وأوروبا نفسها التي كانت رمز الانفتاح بدأت تتحدث عن “السيادة الاقتصادية” و”إعادة التموضع الصناعي” بعد صدمات الغاز والحبوب.

الأمر الإيجابي أن هذه الموجة الجديدة تفتح الباب أمام الدول النامية لتجد مكانا أفضل في الخريطة. فإذا استطاعت هذه الدول أن تستثمر في بنيتها الأساسية وأن تخلق بيئة جاذبة للصناعات الصغيرة والمتوسطة ، فإنها لن تكون مجرد مستهلك أو تابع في النظام العالمي ، بل شريك قادر على التصدير والمنافسة.

ولعل السؤال الأهم: كيف نقرأ هذا التحول في منطقتنا العربية وخاصة في مصر؟ الحقيقة أن الفرصة تبدو كبيرة. فمصر بموقعها الجغرافي الفريد قادرة على أن تتحول إلى عقدة إمداد إقليمية وفي الوقت نفسه إلى مركز صناعي وزراعي يغطي جزءا معتبرا من احتياجاتها. مشاريع البنية التحتية العملاقة من موانئ وطرق ومناطق لوجستية تمنحها ميزة تنافسية لكن التحدي يكمن في استثمار هذه البنية لدعم الإنتاج المحلي لا أن تظل مجرد معبر للسلع الأجنبية.

الاقتصاد المحلي الجديد لا يقوم فقط على المصانع والحقول، بل على المعرفة والابتكار. فالتكنولوجيا اليوم تتيح للمشروعات الصغيرة أن تنافس الشركات العملاقة وتمنح الدول الناشئة فرصة لتجاوز بعض المراحل التقليدية من التطور الصناعي. الذكاء الاصطناعي والطباعة ثلاثية الأبعاد والزراعة الذكية ، كلها أدوات يمكن أن تصنع فارقا حقيقيا إذا ما وُظفت بذكاء في خدمة الاقتصاد الوطني.

إننا أمام فرصة تاريخية لإعادة تعريف مفهوم “القوة الاقتصادية”. لم يعد حجم الاحتياطي النقدي وحده هو المقياس بل قدرة الدولة على حماية مواطنيها وقت الأزمات وضمان استمرار الإنتاج والخدمات الأساسية مهما كانت الظروف. هذه هي القيمة الحقيقية للاقتصاد المحلي الجديد: بناء قدرة على الصمود وليس فقط على النمو.

العواصف التي ضربت العالم لم تكن نهاية الطريق بل ربما تكون بداية مرحلة أكثر عدلا وتوازنا. صحيح أن العولمة لن تختفي.لكن المؤكد أنها لن تعود كما كانت. العالم يتجه نحو تعددية في مصادر الإنتاج والتوريد ونحو دول تبحث عن الاعتماد على الذات بقدر ما تبحث عن التكامل.

إن السؤال الذي يجب أن نطرحه اليوم ليس: هل نستطيع الانفصال عن العالم؟ بل: كيف نبني اقتصادا محليا قويا يجعلنا أكثر قدرة على التفاعل مع العالم بشروط أفضل؟ الإجابة عن هذا السؤال هي ما سيحدد مكانة كل دولة في النظام العالمي القادم.

في النهاية يمكن القول إن سلاسل الإمداد بعد العواصف لم تعد مجرد خطوط نقل للبضائع بل صارت مرآة تكشف قوة الدول وضعفها وإرادتها أو استسلامها. وإذا أحسنا قراءة الدرس فقد تكون الأزمات بداية لنهضة محلية تعيد للاقتصاد الوطني مكانته وتفتح أبوابا جديدة للتنمية المستدامة.

خالد حسين

رئيس مجلس إدارة موقع وجريدة أخبار السياسة والطاقة نائب رئيس مجلس إدارة موقع تقارير الأمين العام للجمعية العربية الأوروبية للتنمية المستدامة رئيس لجنة الإعلام بالجمعية المصرية للبيسبول والسوفتبول عضو بالمراسلين الأجانب عضو بالإتحاد الدولى للأدباء والشعراء

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى