مقالات وآراء

الدبلوماسية الاقتصادية.. السلاح الجديد في زمن الانكماش

كتب /شحاته زكريا

في عالم تتسارع فيه الأزمات وتتداخل فيه الملفات الاقتصادية مع الحسابات السياسية ، باتت الدبلوماسية الاقتصادية واحدة من أهم أدوات القوة الناعمة للدول وأحد المفاتيح الجوهرية للتعامل مع التحديات الدولية. لم يعد النفوذ يُقاس فقط بالتحركات العسكرية أو التحالفات السياسية ، بل أصبحت القدرة على التفاوض الاقتصادي وتأمين المصالح الاستراتيجية ، وفتح الأسواق ، وإبرام الشراكات هي المعيار الجديد لفاعلية الدول في زمن يتغير كل يوم.

الانكماش الاقتصادي الذي يخيّم على الاقتصاد العالمي سواء بفعل صدمات سلاسل الإمداد، أو التوترات الجيوسياسية، أو التغيرات المناخية ، لم يترك للدول رفاهية الانتظار أو الانعزال. لم تعد الموارد تكفي الجميع، ولم تعد الأسواق تتسع للجميع، ولم تعد الاستثمارات تُوزَّع عشوائيا. في هذا السياق المأزوم لم يعد يكفي أن تكون دولة ما منتجة أو مستقرة أو حتى طموحة. ما يميز الدول القادرة على الصمود والنمو هو قدرتها على استخدام أدواتها الدبلوماسية لبناء شبكة مصالح متينة ، وفتح نوافذ اقتصادية ذكية وإقامة شراكات طويلة المدى تُعزز استقلال القرار وتُحصّن الجبهة الداخلية من ارتدادات الخارج.

الدبلوماسية الاقتصادية ليست شكلا من أشكال الترويج التجاري فحسب وليست دورا يقوم به سفراء أو ملحقون تجاريون. إنها منظومة متكاملة من السياسات والتحركات التي تبدأ من دوائر القرار وتنتهي عند المستهلك. إنها إدراك بأن التفاوض على صفقة غذاء أو طاقة لا يقل أهمية عن التفاوض على أمن قومي ، وأن توقيع اتفاق تصدير أو جذب استثمار أجنبي هو امتداد لسيادة الدولة ومكانتها. فمن يملك القدرة على صياغة مصالحه في شكل تفاهمات اقتصادية قابلة للتنفيذ، يملك جزءًا كبيرًا من المستقبل.

وهنا تتجلّى أهمية بناء عقل دبلوماسي اقتصادي داخل الدولة ، عقل لا يتحرك بردود الأفعال ، بل يتنبأ بالمخاطر ويستبق التحديات ويصنع البدائل. في عالم تتسابق فيه الدول على الأسواق والفرص ، لا مكان للجمود ولا وقت للبيروقراطية ، ولا جدوى من العزلة. وحدها الدول التي تُحسن التفاوض وتعرف ماذا تريد، وتُدير علاقاتها على قاعدة المصالح المتبادلة ، هي القادرة على تحويل أزماتها إلى فرص ، وانكماش الأسواق إلى مكاسب استراتيجية.

لقد أصبحت المعركة الاقتصادية الكبرى لا تُخاض داخل الحدود بل في المؤتمرات الدولية، وعلى طاولات التفاوض وفي الاتفاقيات متعددة الأطراف. ومن لا يملك استراتيجية واضحة، ولا يمتلك أدوات ضغط مرنة يصبح جزءا من الهامش لا من المتن. فالمساعدات تُوجَّه لمن يحسن التفاوض ، والشراكات تُبنى مع من يُحسن الأداء والاستثمارات تتدفق إلى من يُقدّم نموذجا قابلا للنمو لا مجرد أمنيات على الورق.

ولأن الاقتصاد لم يعد رقمًا فقط بل رسالة سياسية فإن الدبلوماسية الاقتصادية تعكس أيضًا صورة الدولة. صورتها في الانضباط في الكفاءة في القدرة على التزاماتها، وفي وضوح رؤيتها. ومن هنا، فإن تحسين بيئة الأعمال وتبسيط الإجراءات وضمان الشفافية ، لم يعد مجرد تحسين داخلي بل رسالة إلى الخارج بأن الدولة جاهزة للتعامل ومؤهلة للشراكة وقادرة على الوفاء بتعهداتها.

ومع اتساع أدوار الفاعلين الدوليين وتعقّد التحديات العابرة للحدود ، أصبحت السيادة الاقتصادية لا تُبنى فقط عبر الإنتاج المحلي أو ضبط الميزان التجاري ، بل من خلال الانفتاح المدروس، والتفاهمات الاستراتيجية، والتنوع الذكي في مصادر الشراكة والتمويل والتكنولوجيا. وكل ذلك يحتاج إلى عقل دبلوماسي اقتصادي يستند إلى فهم عميق لطبيعة العالم الجديد.

وإذا كان الاقتصاد العالمي يمر اليوم بمرحلة انكماش تُشبه العاصفة فإن الدول التي تُجيد قيادة السفينة لا تنتظر هدوء الموج بل تُحكم قبضتها على الدفّة وتبحث عن ممرات آمنة وربما تبني لنفسها طريقًا جديدا بعيدا عن الخرائط المعتادة. هنا يأتي دور الدبلوماسية الاقتصادية كفن لصناعة الفرص في زمن الندرة ، وكأداة لإعادة التوازن في زمن الاضطراب.

إن الزمن الذي نعيشه لم يعد يسمح بالتقليدية ، ولا بالمراهنة على السوق وحدها. الأسواق اليوم تحتاج من يُحسن الحديث بلغتها الجديدة: لغة الأرقام والفرص والتحالفات الذكية. والدول التي تُدرك ذلك وتتحرك مبكرا هي التي تستطيع أن تبني لنفسها مكانًا لا يتأثر بتقلبات السياسة أو الأزمات المفاجئة.

وفي النهاية فإن الدبلوماسية الاقتصادية ليست رفاهية سياسية بل ضرورة وطنية. هي الجسر بين الطموح والواقع وهي الترجمة العملية لإرادة الاستقلال والسيادة. في زمن الانكماش لا يُنقذ الاقتصاد إلا عقل يعرف أن النمو لا يُستورد وأن السيادة لا تُمنح وأن المستقبل لا يُصنع بالانتظار ، بل بالفعل الذكي المدروس.

خالد حسين

رئيس مجلس إدارة موقع وجريدة أخبار السياسة والطاقة نائب رئيس مجلس إدارة موقع تقارير الأمين العام للجمعية العربية الأوروبية للتنمية المستدامة رئيس لجنة الإعلام بالجمعية المصرية للبيسبول والسوفتبول عضو بالمراسلين الأجانب عضو بالإتحاد الدولى للأدباء والشعراء

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى