مقالات وآراء

من المشروعات إلى السياسات.. كيف تصوغ القاهرة عقدها الاقتصادي الجديد؟

ليس أعظم من مشروع ناجح سوى سياسة تحوّله إلى نمط دائم. هذا هو التحول العميق الذي تُراهن عليه القاهرة الآن وهي تُعيد ترتيب أولوياتها الاقتصادية وتنتقل من فلسفة “المشروع المتفرد” إلى منطق “الاستراتيجية المستقرة”. فبعد سنوات من ضخ الاستثمارات في البنية التحتية العملاقة، وشق الطرق، وبناء المدن، وتشييد المحاور، وإقامة مناطق لوجستية وصناعية وتجارية، بات الوقت مُهيّأً لمرحلة جديدة: صياغة عقد اقتصادي جديد لا يكون قائما فقط على الإنجاز بل على التأثير المستدام ولا على الطفرة بل على التراكم الهيكلي.

لقد أدركت الدولة المصرية أن الاقتصاد لا يُدار فقط بجودة التنفيذ بل أيضا بذكاء التفكير. وأن المشروعات -مهما بلغت ضخامتها- تظل أدوات لا غايات ما لم تنخرط في منظومة تشريعية ومناخ أعمال مرن وإدارة رشيدة للموارد ورؤية اقتصادية تستشرف المتغيرات. ولذلك فإن القاهرة لا تتجه إلى استكمال ما بدأته فحسب بل إلى إعادة تعريفه عبر سياسات متقدمة تعظم العائد وترشد التكاليف وتُوزّع الثمار بعدالة وفاعلية.

العقد الاقتصادي الجديد الذي تُعيد مصر صياغته اليوم ليس مجرد وثيقة معلنة ولا مجرد حزمة إصلاحات آنية بل هو تصور طويل المدى لإعادة هيكلة العلاقة بين الدولة والسوق والمواطن عبر ثلاثة مسارات متوازية: أولها التحول من اقتصاد قائم على الإنفاق الحكومي إلى اقتصاد تقوده الشراكة مع القطاع الخاص وفق معادلة تحفظ التوازن وتمنع الاحتكار وتُعلي من قيمة الإنتاج الوطني. وثانيها توجيه الدعم والتيسيرات نحو القطاعات الإنتاجية ذات القيمة المضافة بدلا من الاستنزاف في أنماط استهلاكية أو خدمات غير منتجة. وثالثها فتح المجال أمام رأس المال الوطني والأجنبي للدخول في عمق القطاعات الحيوية من الزراعة إلى الصناعة ومن التكنولوجيا إلى الطاقة بضمانات واضحة وقواعد عادلة.

هذا التحول لا ينكر ما تحقق من إنجازات عمرانية وتنموية خلال السنوات الماضية.بل يبني عليها. فما قامت به الدولة من تجهيز الأرض وتأسيس البنية التحتية وضبط الأسواق، وتطوير البيئة التشريعية ، لم يكن إلا “مرحلة التهيئة”، التي تُمهّد الآن لانطلاق الاقتصاد على أسس إنتاجية حقيقية لا مجرد حركة مالية مؤقتة.

وقد برزت في هذا السياق مؤشرات على بداية نضج حقيقي في التفكير الاقتصادي منها: تبني الدولة لاستراتيجية واضحة لتخارجها التدريجي من بعض القطاعات ، بما يفتح الباب أمام المستثمرين دون المساس بالأمن القومي؛ وطرح مشروعات قومية عملاقة في قطاعات الزراعة والصناعة والتكنولوجيا والطاقة أمام القطاع الخاص بشروط عادلة؛ وتعديل التشريعات المرتبطة بالحوافز الاستثمارية والضرائب والإجراءات الجمركية بما يُسهل الدخول للسوق ويضمن خروجه المنضبط.

إلى جانب ذلك تأتي رؤية الدولة لقضايا الأمن الغذائي والمائي والطاقة بوصفها ليست فقط تحديات آنية بل محددات رئيسية للسيادة الاقتصادية في المستقبل. لذا فإن القاهرة تُعامل تلك الملفات بوصفها قضايا استراتيجية، فتستثمر في الزراعة الذكية ، وتحلية المياه ، والهيدروجين الأخضر والطاقة المتجددة وترتبط بشبكات إقليمية للتجارة والتوزيع حتى تصبح مركزًا إقليميًا للطاقة والخدمات واللوجستيات.

العقد الاقتصادي الجديد يُعطي أهمية محورية لعنصر الاستقرار ليس بالمعنى السياسي فقط بل في سياسات الصرف والتجارة والتمويل ، وتوزيع الموارد . فالمستثمر سواء كان محليا أو أجنبيا لا يطلب معجزة بل يطلب شفافية في القواعد وثباتا في البيئة وسرعة في الإجراءات وعدالة في المنافسة. وهو ما بدأت الحكومة بالفعل في إرسائه من خلال توحيد جهات التراخيص وتوسيع تطبيق الرخصة الذهبية وإطلاق خريطة استثمارية موحدة وتفعيل المجلس الأعلى للاستثمار.

وإذا كانت السياسات المالية والنقدية قد بدأت تتناغم مؤخرا تحت مظلة واحدة لضبط السوق فإن الرهان الحقيقي يبقى على التحول الإنتاجي أي أن تتحول الدولة من اقتصاد يعتمد على التدفقات الخارجية إلى اقتصاد يولّد ثروته من الداخل، عبر التصنيع، والزراعة، والتصدير، والخدمات عالية الكفاءة. وهذا هو التحدي الأهم، لأنه وحده القادر على خفض معدلات البطالة، وكبح التضخم، وزيادة دخل الفرد، وتحقيق التنمية المستدامة.

في النهاية فإن ما يُحسب لمصر اليوم أنها لم تركن إلى مرحلة الإنجاز ولم تستسلم لمعادلات السوق بل بدأت تُعيد صياغة عقدها الاقتصادي بجرأة، مدفوعة برؤية قيادة تُدرك أن الاستقلال الاقتصادي لا يعني الانغلاق وأن الانفتاح لا يعني التفريط وأن النمو لا يعني فقط أن نبني بل أن نُنتج ونُصدّر ونُشغّل ونُنافس.

العقد الجديد ليس فقط ورقة سياسات بل نقلة في الوعي الوطني: أن المستقبل لا يُنتظر بل يُصنع. وأن مصر ليست مجرد دولة تبحث عن موطئ قدم بل أمة تبني مكانتها في اقتصاد عالمي يتشكل من جديد. وهذا وحده كفيل بأن يجعل القادم أفضل… لا بوعد الأحلام بل بمنطق العمل.

خالد حسين

رئيس مجلس إدارة موقع وجريدة أخبار السياسة والطاقة نائب رئيس مجلس إدارة موقع تقارير الأمين العام للجمعية العربية الأوروبية للتنمية المستدامة رئيس لجنة الإعلام بالجمعية المصرية للبيسبول والسوفتبول عضو بالمراسلين الأجانب عضو بالإتحاد الدولى للأدباء والشعراء

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى