القرن الذهبي.. حين تتكلم الصين وتستمع أمريكا

كتب /زكريا شحاته
لم يكن القرن الحادي والعشرون مجرد امتداد تقويمي لنظيره السابق بل هو قرن الانقلاب الهادئ في موازين القوة والنفوذ قرنٌ تغيرت فيه قواعد اللعبة ، وتبدلت مراكز السيطرة فلم تعد واشنطن وحدها تمسك بخيوط القرار العالمي. على الطرف الآخر من المحيط نهض العملاق الأصفر ببطء وإصرار حتى باتت الصين تتكلم… والعالم يستمع بما في ذلك الولايات المتحدة نفسها.
لعقود طويلة كانت الصين تُحسب على العالم الثالث وتُمنح امتيازات الدول النامية في اتفاقيات التجارة بينما تبني مصانعها وتكدس فوائضها التجارية وتوسع نفوذها بهدوء شرقا وغربا. اليوم لم تعد بكين تلعب من مقاعد المتفرجين. إنها في قلب المعادلة بل تكتب سطورا جديدة في دفتر قيادة العالم لا عبر المدافع أو الأساطيل بل من بوابة الاقتصاد والتكنولوجيا والسياسة الناعمة.
الولايات المتحدة التي خرجت من الحرب الباردة منتصرة ووحيدة على قمة النظام الدولي لم تستوعب مبكرا أن شريكا منافسا يولد بصمت في آسيا. فقد ظنت واشنطن أن إدماج الصين في النظام الليبرالي سيجعل منها تابعا اقتصاديا ، لكن الصين أدارت اللعبة بذكاء مختلف. دخلت منظمة التجارة العالمية في 2001 وأصبحت ورشة العالم الكبرى ثم مركزا ماليا ومصرفيا وأخيرا لاعبًا تكنولوجيا من العيار الثقيل. والنتيجة: فائض تجاري ضخم مع الولايات المتحدة واحتياطيات نقدية فاقت التريليوني دولار في بعض السنوات.
لكن المسألة لم تعد تجارية فقط. نحن الآن في قلب “الثورة الصناعية الرابعة” حيث الذكاء الاصطناعي والبيانات الضخمة والروبوتات الذكية هي الأسلحة الجديدة للصراع بين القوى العظمى. هنا تلعب الصين لعبتها الأثيرة: استثمار طويل المدى تخطيط مركزي صارم وسيطرة محكمة على سلاسل الإمداد والمعادن النادرة والتقنيات الدقيقة. لم تعد الصين مصنع العالم فقط بل عقل العالم الصناعي.
في المقابل تجد واشنطن نفسها في موقف دفاعي. فمنذ أن كشفت جائحة كورونا هشاشة سلاسل التوريد الأمريكية وافتضحت تبعية الاقتصاد الأمريكي لبعض المنتجات الحيوية القادمة من الصين دأ الحديث الجاد عن “إعادة التصنيع” و”الانفصال الاقتصادي”، و”تقييد التكنولوجيا”. لكن اللعبة أكثر تعقيدًا مما تبدو. فحتى الشركات الأمريكية العملاقة مثل Apple وTesla لا تزال معتمدة على الصين ليس فقط في التصنيع بل في السوق والمكونات وسلاسل القيمة.
وهنا يأتي البُعد السياسي. فالصين لم تكتفِ بالاقتصاد. إنها تطرح ولو بحذر نموذجا حضاريا مغايرا: دولة مركزية قوية ذات قيادة حازمة تخطط لعقود قادمة وتنجح دون تبني الديمقراطية الغربية. هذا النموذج يقلق الغرب لأنه يكشف أن الحداثة لا تتطلب بالضرورة نسخة ليبرالية من الحكم. بل إن كثيرا من دول الجنوب العالمي بدأت تنظر إلى بكين كمرجعية للتنمية السريعة دون اضطرابات داخلية.
الولايات المتحدة بقيادة ترامب 2 تدرك هذا التهديد لكن خياراتها محدودة. فالعقوبات وحدها لا تكسر طموحات الصين والحرب المباشرة مستحيلة والتعاون صعب في ظل انعدام الثقة. كل ما تملكه واشنطن الآن هو محاولة تأخير الصعود الصيني أو تقويضه عبر التحالفات والحصار التكنولوجي وتوسيع الفجوة المعرفية.
لكن السؤال الأهم: هل فات أوان كبح التنين؟ وهل نحن أمام لحظة تحول تاريخي تنتقل فيها قيادة العالم شرقًا لأول مرة منذ خمسة قرون؟ ما يجري الآن يشير إلى أننا نعيش مخاض ولادة “قرن آسيوي”، ليس بالضرورة صينيًا خالصا لكنه بلا شك، لم يعد أمريكيًا صرفًا.
الصين لا ترفع صوتها كثيرا لكنها تقول ما يكفي وتفعل ما هو أكثر. وفي صمتها المنظم تكمن قوة هادئة ، تزعزع ما ظنّته واشنطن ثابتًا. ولعلنا نقترب من عصر جديد تُكتب فيه السياسة الدولية بلغة الموانئ والمصانع والشرائح الإلكترونية لا بصدى الدبابات والطائرات.
في القرن الذهبي القادم يبدو أن من يتكلم حقا… هو من يُتقن الاقتصاد ويملك التقنية ويفكر على مدى قرن. الصين تفعل وأمريكا – وربما العالم كله – يستمع.