صوت الشعوب لا يكفي.. من يصنع قرار الدولة في زمن الأزمات؟

صوت الشعوب لا يكفي.. من يصنع قرار الدولة في زمن الأزمات؟
كتب /شحاته زكريا
في أزمنة الاستقرار قد يبدو صوت الشعوب كافيا لدفع الدول نحو قراراتها. فالرأي العام يتشكل بهدوء والمطالب تُرفع في مناخ يسمح بالتفاوض والتدرج.
لكن حين تهب العواصف وتُطبق الأزمات على عنق الدولة، يتغير كل شيء.
في زمن الأزمات يصبح القرار أكثر تعقيدا والصوت العالي لا يعني بالضرورة الرؤية الصائبة.
فمن يصنع القرار إذن؟ ومن يملك شجاعة اتخاذه؟ ومن يتحمّل مسؤوليته عندما لا يكون شعبيا ولا مُرضيا للجميع؟
الرد السهل هو: الشعوب تُقرر.
لكن الحقيقة أن الشعوب تُعبّر، تُطالب، تُخاف، وتغضب، لكنها لا تُمسك بكل الخيوط. فصناعة القرار في وقت الأزمات لا تحتاج فقط إلى نبض الجماهير بل إلى عقل بارد وبصيرة ثاقبة وأدوات لا تُرى بالعين المجرّدة.
خذ مثلا أزمة الغذاء العالمية. هل يمكن للشعب أن يُحدد سياسة استيراد القمح أو ترتيب أولويات الزراعة أو بناء صوامع التخزين؟
هل بإمكان الرأي العام أن يُدير موازنة الدولة أو يُقرر سعر الفائدة أو يفاوض مؤسسات التمويل الدولية؟
الجواب المنطقي: لا.
لأن هذه الملفات لا تُدار فقط بالشعور بل بالعلم والخبرة والقدرة على التعامل مع متغيرات تتغير كل ساعة.
في زمن الأزمات القرار لا يكون دائما شعبيا لكنه يجب أن يكون وطنيا.
بمعنى: قد لا يرضي الجميع لكنه في مصلحة الجميع.
قد يكون مُرا الآن لكنه يحمي من مرارات أكبر غدا.
وهذا هو التحدي الذي تواجهه أي دولة تحترم شعبها:
أن تُوازن بين سماع الصوت ، وبين اتخاذ القرار الصعب.
أن تُنصت لما تقوله الجماهير ، دون أن تُدار فقط بما تطلبه اللحظة.
أن تتحرك نحو الحلول حتى إن كانت مؤلمة لأن البديل أكثر قسوة.
ومصر ليست استثناءً.
بل إن تجربتها خلال السنوات الأخيرة تصلح نموذجا لتلك المعضلة الكبرى:
كيف تُدير الدولة قراراتها حين تكون بين ضغط الشارع وضغط الخارج وضغط الحقائق الاقتصادية.
خلال أزمة التضخم مثلا ارتفعت الأسعار وارتبكت الأسواق، وكان الشارع قلقلا بل غاضبا أحيانا.
لكن القرار لم يكن أن تُهدّئ الدولة المشاعر بخطابٍ لطيف فقط بل أن تُعيد هيكلة الدعم وتُطلق مبادرات للحماية الاجتماعية ، وتُخفف العبء بالبطاقات التموينية والدعم النقدي المباشر دون أن تُفرّط في الاستقرار المالي.
وفي ملف الكهرباء بدلا من اتخاذ قرار شعبي بإلغاء الفاتورة أو تثبيتها في وقت الزيادة اختارت الدولة قرارا أصعب:
تأجيل الزيادات مع الحفاظ على التشغيل ، وضمان استمرار الخدمة بكفاءة رغم التكاليف الهائلة.
هكذا تُصنع القرارات.
بميزان العقل لا فقط ميزان الرغبة،
وبنظرٍ بعيد لا فقط تحت ضغط اللحظة.
صوت الشعوب مهم بل هو البوصلة التي تُشير إلى الاتجاه العام.
لكنه لا يُمسك بالدُفّة وحده.
الدولة تُمثّل هذا الشعب وتعرف مصلحته لا من موقع الوصاية بل من موقع الرؤية.
والقيادة التي تتحمل مسؤولية القرار في وقت العواصف، تُراكم الثقة ، لا الخوف.
ربما لا يدرك المواطن كل تفاصيل القرار الآن ، وربما يعارضه لأنه يُثقل كاهله،
لكن التاريخ يُثبت أن القرارات الصعبة حين تكون صادقة وعادلة تُثمر لاحقا بما لا يمكن أن تحققه الشعبويات المؤقتة.
إن من يصنع قرار الدولة في زمن الأزمات هو العقل الجمعي للمؤسسات والخبرة المتراكمة في إدارات الدولة وإرادة سياسية تتحمل الكلفة ولا تشتري الرضا السريع على حساب المصلحة العميقة.
ولذا فإن الديمقراطية الحقيقية لا تعني أن يحكم الشارع بل أن يُصغي الحاكم للشارع دون أن يفقد بوصلته.
أن يُوازن بين المطلوب والممكن، بين الحلم والواقع، بين الضغط والحكمة.
وفي النهاية ، ستبقى الشعوب على حق في أن تُحاسب وتُراقب وتُعبّر.
لكنها تحتاج أيضا إلى دولة تمتلك من الثقة والحنكة ما يُمكنها من اتخاذ القرار ، لا الخضوع للرغبة الآنية.
ففي زمن الأزمات ليس من يرفع صوته هو الأصدق بل من يتحمل عبء القرار حين يصمت الجميع.