الاقتصاد المقاوم.. كيف تُواجه مصر التحديات دون ضجيج؟

كتب /شحاته زكريا
في عالم يضجّ بالأزمات ، ويئن تحت وطأة الحروب والانكماش، والتضخم، والصدمات الجيوسياسية، تقف مصر وسط العاصفة دون أن ترفع صوتها كثيرا، ودون أن تسرف في الشعارات أو البيانات المنمّقة. لا تصرخ في المؤتمرات الدولية ، ولا تُحمّل العالم وزر كل تعثر بل تمضي بخطى حذرة، لكنها ثابتة، في بناء نموذج فريد لما يمكن تسميته بـالاقتصاد المقاوم. مقاوم للصدمات، مقاوم للتقلبات، مقاوم للتشكيك.
وربما كانت كلمة السر في هذا النموذج: الواقعية السياسية والهدوء الاقتصادي المدروس. ففي السنوات الماضية خاضت الدولة المصرية واحدة من أعقد المراحل في تاريخها الحديث. من أزمة كورونا إلى حرب روسيا وأوكرانيا، مرورا بتداعيات أزمة قناة السويس ، ثم ارتدادات الحرب في غزة والضغط على الجنيه، واحتياجات الأمن الغذائي، وشحّ الدولار، وخروج استثمارات أجنبية ضخمة. ورغم كل ذلك لم تنهر الدولة ، ولم تنزلق إلى سيناريو الفوضى ولم تترك يدها للاقتصاد الأسود أو للغضب الشعبي.
بل على العكس استمرّت المشروعات القومية، وزادت الاستثمارات الخليجية، وعاد صندوق النقد الدولي للتعاون، وتمّ الإعلان عن برامج واضحة للطروحات، وخُفض العجز، وصمدت المؤسسات، واحتفظت الدولة بسيادتها على قرارها، وفتحت باب إعادة الهيكلة دون خصخصة عمياء، ولا انغلاق متعسّف.
مصر ببساطة تبني من قلب العجز طاقة ومن وسط الأزمة فرصة. وربما لا يشعر المواطن العادي بذلك في حياته اليومية بشكل مباشر ، لكنه يرى — وإن لم يُصرّح — أن هناك قبضة تتحكّم أن الفوضى ليست قدرا ، وأن السفينة لا تسير بلا قبطان.
الاقتصاد المصري لا يزال يعاني نعم. لا أحد ينكر الضغط على الجنيه، ولا التضخم، ولا صعوبة بعض الإجراءات. لكن المختلف أن الدولة لم تهرب ولم تكتفِ بالمسكنات بل اختارت المواجهة. فتحت ملف الدعم بجرأة ، وواجهت كتل المصالح ورفعت شعار الشراكة مع القطاع الخاص لا التبعية له وأصرّت على الإصلاح حتى في ظل شعبية قابلة للنقاش.
ولأن النموذج المصري ليس صاخبا ولا استعراضيا فقد أخطأ كثيرون في تقديره. ظنّه البعض ترنّحا ، أو فوضى مؤجلة ، أو إدارة تقليدية لعاصفة معقدة. لكن الواقع أن الدولة المصرية أدارت معركتها الاقتصادية بأدوات مركبة: تفاوض سياسي عالي المستوى جذب استثمار نوعي (وليس فقط نقدي)، وتوازن بين سياسات السوق وحماية الطبقات الفقيرة.
خذ مثلا ما حدث في ملف الطاقة: بينما تعاني أوروبا من شتاء طويل بلا ضمانات إمداد ، كانت مصر تجهّز بنية تحتية متقدمة، وسفن تغييز، وشبكات توزيع، ومشروعات بتروكيماويات، وتحويل الغاز إلى مورد استراتيجي وليس مجرد بند في ميزان المدفوعات. ليس هذا فقط بل وُقعت اتفاقيات مع الأردن، وألمانيا، ودول شرق المتوسط بما جعل من مصر مركزا إقليميا للطاقة — بهدوء، ودون ضجيج، ودون مقايضة على السيادة.
ثم انظر إلى ملف قناة السويس: بدلا من الاكتفاء بعوائد المرور تحوّلت المنطقة الاقتصادية إلى منطقة خدمات وصناعة، ومراكز تخزين، وربط لوجستي، ومصدر عملة صعبة يتوسّع كل عام. وبالمثل، كانت السياحة تُدار كموسم فأصبحت تُدار كصناعة دائمة، متنوعة، تبدأ من الغردقة وتنتهي بالعلمين، مرورا بمرسى مطروح وسيناء.
كل هذا يجري في ظل أصعب معادلة مالية منذ عقود: ديون خارجية تضغط ومتطلبات إنفاق اجتماعي متزايد ، ومناخ عالمي غير متسامح. ومع ذلك تحتفظ مصر بتوازن نادر لا ينهار فيه الجنيه رغم الضغط، ولا تتوقف الرواتب، ولا تنكسر البنية التحتية، ولا تغيب الدولة.
والأهم من كل ما سبق أن الاقتصاد المصري لا يُدار تحت وصاية، بل بشراكة، ومفاوضات، وأولويات وطنية. صندوق النقد لم يفرض شروطًا من فراغ بل جاء في سياق تفاهمات ومصالح مشتركة ، لا على طريقة البرنامج الجاهز بل وفقا لما يناسب طبيعة الاقتصاد المصري وخصوصيته الاجتماعية.
نحن لا نعيش في المدينة الفاضلة هذا مؤكد. لكننا — بإجماع المراقبين الدوليين — لم ننزلق إلى النماذج السوداء ولم نستسلم لمخططات الفوضى ، ولم نتنازل عن قرارنا السيادي مقابل حفنة دولارات. وهذه في حد ذاتها مقاومة.
المواطن قد لا يلمس الأرقام ، لكنه يرى الثبات في وجه الأعاصير. وهذه الثقة، بحد ذاتها، هي الرصيد الأهم في أي اقتصاد: ثقة الناس بأن دولتهم تعرف ما تفعل ، حتى إن لم تعلن عن ذلك كل ساعة.
ولذلك فإن ما تصنعه مصر الآن بعيدا عن الصخب ، يشبه عملية زرع في أرض صلبة. قد يتأخر الحصاد وقد تُصاب الأرض بالجفاف أحيانا، لكن الشجرة التي تُزرع بعرق وهدوء، لا تقتلعها الرياح، ولا تهزمها الشائعات.