الأمن الغذائي ليس رفاهية: كيف نبني اقتصادا يزرع لنفسه؟

في عالم يموج بالأزمات من تغير المناخ إلى النزاعات الجيوسياسية أصبحت قضية الأمن الغذائي واحدة من أولويات السياسات العامة للدول ، ولم تعد مرتبطة فقط بالقطاع الزراعي بل دخلت صلب مفاهيم السيادة الاقتصادية والأمن القومي.
الغذاء لم يعد مجرد سلعة أصبح أداة من أدوات النفوذ كما أصبح في الوقت نفسه تحديا وجوديا للدول النامية ، التي تواجه ضغوطا متزايدة لتأمين احتياجات شعوبها من السلع الأساسية في ظل تقلبات السوق العالمية وارتفاع تكاليف الاستيراد.
من هذا المنطلق تظهر أهمية بناء اقتصاد يزرع لنفسه يقوم على استغلال الموارد المحلية ، وتحقيق أقصى درجات الاكتفاء الذاتي في السلع الاستراتيجية. فالدولة التي تنتج غذاءها تضمن لنفسها قدرا عاليا من الاستقرار وتتحرر جزئيا من تقلبات الأسواق الدولية وتُحصّن قرارها السياسي من الضغوط الخارجية.
وقد أثبتت التجربة العالمية أن تعزيز الأمن الغذائي لا يعني الانغلاق بل يتطلب رؤية متكاملة تشمل الإنتاج والتخزين والنقل، والتصنيع، والتوزيع. وهذا لا يتحقق إلا من خلال إعادة الاعتبار للزراعة كقطاع استراتيجي، وليس فقط قطاعا تراثيا أو ريفيا.
تمتلك مصر مثل كثير من الدول العربية ، مقومات هائلة تؤهلها للعب دور ريادي في هذا الملف: من موقع جغرافي مميز، إلى تنوع مناخي إلى خبرات بشرية وتاريخ زراعي طويل. ومع المبادرات القومية الكبرى مثل مشروع الدلتا الجديدة وتوسيع الرقعة الزراعية في مناطق صحراوية واعدة، بدأت الدولة في ترجمة هذه الإمكانات إلى واقع.
لكن الأمن الغذائي لا يتحقق فقط بزيادة الرقعة المزروعة بل أيضا بتحسين كفاءة الموارد خاصة المياه من خلال تقنيات الري الحديث والتوسع في الزراعة الذكية وتطوير منظومة الإرشاد الزراعي ، وربطها بالبحث العلمي. كما يتطلب الأمر دعم سلاسل القيمة الزراعية ، عبر تحفيز التصنيع الغذائي وتقليل الفاقد وتحديث منظومة النقل والتخزين.
ومن المهم كذلك تمكين صغار المزارعين باعتبارهم العمود الفقري للإنتاج الغذائي من خلال توفير التمويل وضمان التسويق وإدماجهم في منظومات زراعية حديثة أكثر إنتاجية وربحية.
تتصل الزراعة أيضا بالبعد الاجتماعي فتعزيز الأمن الغذائي ينعكس مباشرة على استقرار المجتمعات ، ويقلل من الفجوة بين الريف والحضر ويخلق فرص عمل حقيقية في قطاع واسع يظل قادرا على امتصاص البطالة ، لا سيما بين الشباب.
إن بناء اقتصاد يزرع لنفسه لا يعني الاكتفاء الذاتي الكامل فهذا هدف قد لا يكون واقعيا في كل السلع ، لكنه يعني ببساطة أن نعرف ما نحتاجه ونحدد ما يمكن إنتاجه محليا بكفاءة ، ونرسم سياسات واضحة لسد الفجوات عبر أدوات ذكية ومستدامة.
في النهاية الأمن الغذائي ليس رفاهية ، ولا بندا ثانويا في جداول السياسات. إنه قضية وطنية متكاملة تمس كل بيت، وكل مائدة، وكل قرار سيادي. وكل خطوة نخطوها في اتجاه زراعة أقوى واقتصاد أكثر قدرة على إنتاج غذائه ، هي خطوة نحو سيادة مستقلة ونمو مستدام ، واستقرار طويل الأمد.