الطاقة الخضراء أم سراب اقتصادي؟ من يحصد أرباح التحول العالمي؟

كتب/شحاته زكريا
في زمن تتصارع فيه الدول على النفوذ وتتنافس الشركات على الأسواق يطل علينا ملف الطاقة بوصفه العصب الحقيقي للاقتصاد العالمي. غير أن المشهد لم يعد كما كان؛ لم تعد الهيمنة محصورة في براميل النفط ولا في أنابيب الغاز بل بدأ عالم جديد يتشكل حول مفهوم “الطاقة الخضراء”. البعض يراها ثورة اقتصادية ستغير وجه البشرية وآخرون يشككون فيها ويعتبرونها مجرد “سراب اقتصادي” تدفع إليه أجندات سياسية ومصالح شركات كبرى. لكن الحقيقة التي لا يمكن إنكارها أن التحول نحو الطاقة النظيفة لم يعد خيارا بل صار ضرورة تاريخية يفرضها تغير المناخ وواقع الاقتصاد العالمي معًا.
لقد أثبتت السنوات الأخيرة أن الاقتصادات التي تراهن على الوقود الأحفوري فقط ، تبقى رهينة للتقلبات الجيوسياسية. الحروب، الأزمات، العقوبات، تقلب أسعار النفط… كلها عواصف قادرة على إسقاط ميزانيات دول في أيام معدودة. بينما الدول التي سارعت إلى الاستثمار في الطاقة المتجددة، من الرياح والشمس والهيدروجين الأخضر لم تؤمّن مستقبلها فقط بل صارت لاعبا مؤثرا في سوق عالمي جديد يتسع يوما بعد يوم. يكفي أن نرى كيف تحولت ألمانيا والدنمارك وإسبانيا إلى رواد عالميين في الطاقة النظيفة وكيف أن الصين جعلت من الألواح الشمسية والتوربينات صناعة قومية تنافس بها الولايات المتحدة وأوروبا معًا.
هنا يبرز السؤال: هل الطاقة الخضراء مجرد دعاية براقة أم هي بالفعل رهان اقتصادي رابح؟ الواقع يقول إن الأرقام لا تكذب. في عام واحد فقط تجاوزت استثمارات الطاقة المتجددة عالميًا تريليون دولار وهو رقم لم يكن أحد يتخيله قبل عقد واحد. ملايين الوظائف الجديدة خُلقت في مجالات التصميم والتركيب والصيانة والتكنولوجيا المساندة. دول مثل المغرب التي استثمرت في بناء أكبر محطة للطاقة الشمسية في العالم (نور ورزازات)، لم تجنِ فقط كهرباء نظيفة بل صنعت لنفسها مكانة جديدة في خريطة الطاقة العالمية. هذه أمثلة تؤكد أن التحول الأخضر ليس سرابا بل فرصة اقتصادية حقيقية.
ومع ذلك لا يخلو الطريق من تحديات. فتكلفة التكنولوجيا ما تزال مرتفعة في بعض المجالات، والبنية التحتية ليست متاحة للجميع كما أن بعض الدول النامية تخشى أن تُفرض عليها أجندة خضراء لا تتناسب مع واقعها الاقتصادي. لكن السؤال الأهم: هل نمتلك رفاهية التأجيل؟ التغير المناخي يطرق الأبواب بقسوة: فيضانات غير مسبوقة موجات حر قاتلة، حرائق غابات، أعاصير وأوبئة… كلها كوارث تكلف الاقتصاد العالمي مئات المليارات سنويا. إذن الاستثمار في الطاقة النظيفة ليس ترفا ، بل هو في جوهره سياسة وقائية لإنقاذ كوكب ينهار ببطء.
وهنا تبرز أهمية التفكير الإيجابي والواقعي معا. نعم.هناك مصالح كبرى تتحكم في مسار التحول ، وهناك شركات عملاقة تريد حصاد الأرباح أولا لكن هذا لا يمنع أن باب الفرص مفتوح أمام الجميع. الدول النامية قادرة أن تدخل هذا السباق بذكاء لا عبر تقليد الآخرين فقط.بل من خلال بناء مشروعات محلية تناسب بيئتها ومواردها. مصر مثلا بفضل موقعها الجغرافي تستطيع أن تكون مركزا إقليميا للطاقة الشمسية والرياح والهيدروجين الأخضر. أفريقيا بقارتها المليئة بالشمس والأنهار يمكن أن تصبح مخزن الطاقة المتجددة للعالم كله إذا وُجدت الإرادة السياسية والرؤية الاقتصادية.
ما يجب أن ندركه أن “التحول الأخضر” ليس مجرد ملف بيئي، بل هو إعادة صياغة للاقتصاد العالمي. من سيسيطر على التكنولوجيا سيملك القوة ومن يستثمر في التعليم والبحث العلمي سيحصد الأرباح الكبرى. إنها معركة وعي قبل أن تكون معركة أرقام. المجتمعات التي ترفض التغيير وتتمسك بالماضي ستدفع الثمن غاليًا، بينما تلك التي ترى في الأزمة فرصة ستجد نفسها في مقدمة الركب.
إذن.ليست الطاقة الخضراء سرابا اقتصاديا بل هي شريان حياة جديد لكنها شريان يحتاج إلى من يعرف كيف يستثمر فيه. المستقبل لن ينتظر المترددين ولن يرحم الكسالى. الرابحون سيكونون من يمتلكون الشجاعة لاقتناص اللحظة، ومن يدركون أن الثروات لا تُبنى من الحفر في الأرض وحدها بل من الحفر في العقول وبناء المعرفة.
لقد حان الوقت أن نسأل أنفسنا بصدق: هل سنظل مجرد مستهلكين للتكنولوجيا الخضراء نصرف عليها مليارات الدولارات سنويا؟ أم سنقرر أن نصبح صناعا ومبتكرين وحاملي راية في هذا التحول؟ العالم لا ينتظر والسباق قد بدأ بالفعل. من يفهم معادلة “الاقتصاد الأخضر” اليوم سيكتب فصول الغد وسيحصد أرباح التحول العالمي قبل أن تضيع الفرصة إلى الأبد.