مقالات وآراء

الأزمات تصنع الفرص.. كيف نُعيد تعريف الأمن الاقتصادي

كتب /شحاته زكريا

فى تاريخ الشعوب لا يُقاس التقدم بما تملكه من موارد فقط بل بما تصنعه من رؤى وقت المحن وبقدرتها على تحويل التحديات إلى نقاط انطلاق ، لا إلى قيود تُكبّلها. الأزمات ليست نهاية الطريق بل أحيانا تكون بدايته الحقيقية. ولهذا فإن الأمن الاقتصادى لم يعد مجرد مفهوم تقليدى يرتبط بالاستقرار النقدى أو توازن الموازنة بل صار مشروعا استراتيجيا لإعادة بناء الذات الوطنية على أسس قادرة على الصمود والتكيّف.

فى السنوات الأخيرة مرّ العالم بمجموعة من الصدمات الاقتصادية غير المسبوقة؛ من جائحة كورونا إلى اضطرابات سلاسل الإمداد من الحروب والصراعات الجيوسياسية إلى تقلبات أسعار الطاقة والغذاء إلى ما فرضته التكنولوجيا من تغييرات عميقة فى سوق العمل والإنتاج. هذه التحولات دفعت الدول لإعادة النظر فى مفهوم “الأمن الاقتصادى” باعتباره المفهوم الأوسع الذى يشمل الأمن الغذائى، والرقمى، والطاقوى، بل وحتى التعليمى والصحى.

فإذا كنا فى العقود الماضية نقيس الاستقرار الاقتصادى بمعدلات النمو والتضخم والاحتياطى فإن اليوم يُقاس أيضا بمقدار القدرة على الاكتفاء الذاتى والمرونة فى مواجهة التقلبات العالمية والقدرة على الصمود أمام الأزمات دون أن يُصاب المجتمع بالشلل أو الارتباك. الأمن الاقتصادى لم يعد رفاهية بل هو جزء من الأمن القومى ذاته.

وفى هذا السياق تبرز أهمية أن نُعيد تعريف أولوياتنا. ليس فقط من حيث زيادة الإنتاج أو خفض الاستيراد بل من حيث بناء منظومات قادرة على أن تحمى المواطن لا وقت الازدهار فقط بل وقت الضغوط. وفى قلب هذا المفهوم تأتى فكرة “الفرصة” التى تصنعها الأزمة. فكم من دولة انطلقت حين ضُيّق عليها الخناق؟ وكم من اقتصاد نهض حين سقط الاعتماد على الخارج، وتم تحفيز الداخل؟

الأزمة تخلق وعيا جديدا. تُجبر الحكومات والمجتمعات على أن تُعيد صياغة العلاقة بين الاستهلاك والإنتاج ، بين الدعم والتحفيز بين التخطيط الطويل الأجل وسرعة الاستجابة اللحظية. لكنها وبقدر ما تخلق من قلق تفتح أيضا مسارات جديدة للتفكير. وكم من تجربة اقتصادية كبرى بدأت بإعادة التفكير فى موارد كانت مهمّشة أو قطاعات لم تكن مُفعّلة ، أو كفاءات كانت خارج الحسابات.

فى مصر لا يخفى على أحد حجم التحديات لكنها فى الوقت ذاته تملك من المقومات ما يجعلها قادرة على تحويل الأزمة إلى فرصة. فلدينا سوق كبيرة، وموارد طبيعية متنوعة، وموقع جغرافى فريد وطاقات بشرية هائلة. السؤال لم يعد: هل نملك ما يكفى؟ بل: هل نُعيد توجيه ما نملكه بطريقة تكفل استدامة النمو وتحقيق المناعة الاقتصادية؟

إعادة تعريف الأمن الاقتصادى تبدأ من الاهتمام بالإنتاج المحلى، ليس فقط كحل وقتى بل كاستراتيجية دائمة. تبدأ من تشجيع الابتكار المحلى ، وتحفيز الصناعات الصغيرة، وتعزيز التنافسية وإعادة النظر فى منظومة التعليم والتدريب باعتبارها الركيزة الأهم لأى أمن اقتصادى حقيقي. فليس الأمن الاقتصادى هو ما تحققه الدولة فى عام واحد، بل ما تبنيه لأجيال قادمة ، دون أن تترك مستقبلها رهنا لأى طرف خارجى.

كما يشمل الأمن الاقتصادى ضرورة بناء شبكات حماية اجتماعية ذكية ، تضمن للفئات الهشة حدا أدنى من الأمان دون أن تخلق ثقافة الاتكال أو تعيق الإنتاج. فالاقتصاد الذى لا يراعى العدالة فى توزيع الثمار لا يمكن أن يكون آمنا مهما بلغت أرقامه. وكذلك لا يمكن تحقيق أمن اقتصادى حقيقى دون شفافية ومشاركة ، تجعل المواطن شريكا فى القرار، ومدركًا لتفاصيل المعادلة.

إن تحويل التحدى إلى فرصة يتطلب عقلا استراتيجيا يرى فى الصدمة فرصة للترميم ، لا مجرد سبب للشكوى. يتطلب جرأة فى اتخاذ القرار ومرونة فى التغيير ووعيا بأن الأمن الاقتصادى ليس هدفا نهائيا ، بل عملية مستمرة تتجدد أدواتها مع كل مرحلة. والأهم من ذلك أنه لا يتحقق بالمعادلات الرقمية وحدها بل بإرادة جماعية تُشارك فيها الدولة والمجتمع والقطاع الخاص.

اليوم وبعد كل ما مر به العالم لم تعد هناك دولة محصنة تماما من الأزمات. لكن هناك دولا تُحسن إدارة الصدمة وأخرى تُفرط فى الوقت حتى تُداهمها المفاجآت. والفرق هنا ليس فى حجم الإمكانيات ، بل فى وضوح الرؤية وحُسن إدارة الموارد والقدرة على إشراك الجميع فى طريق النجاة.

فى زمن الأزمات لا مكان لمن ينتظر. إما أن تبنى أمنك الاقتصادى بيدك أو تظل أسيرا للتقلبات الدولية. والخيار فى النهاية لا تفرضه الظروف بل تصنعه الإرادة.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى