سؤال الحرب: من الذي يُراد تدميره حقاً؟

كتب /شحاته زكريا
لم تعد الحروب تُخاض من أجل ما يُعلَن ولا تُشنّ لأسباب واضحة كما كان الحال قبل قرن مضى. في صراع اليوم لا تعنيك القذائف والصواريخ بقدر ما يجب أن تُقلقك الأسئلة الصامتة تلك التي لا تُطرح على موائد التحليل التلفزيوني ولا تُكتب في بيانات الجيوش. السؤال الأهم في كل ما يجري الآن: من الهدف الحقيقي؟ هل هو المفاعل النووي أم الدولة التي تحتضنه؟ هل المقصود هو البرنامج أم البنية التي أنتجت البرنامج ذاته؟
من يتأمل الضربات المتتالية التي وُجهت إلى دول المنطقة خلال العقدين الماضيين يدرك أن الفكرة كانت أبعد من عنوان الحرب. العراق لم يكن ميدانا لمعركة ضد أسلحة دمار شامل بل ساحة مفتوحة لإخراج قوة مركزية من معادلة الشرق الأوسط. وسوريا لم تكن مسرحا لحرب أهلية بقدر ما كانت حلقة في مشروع تعطيل الجغرافيا وتفكيك البنى الوطنية. والسودان لم يكن فقط صراعا داخليا على السلطة بل مثالا على كيف يُمكن للصراع أن يصبح أداة لإلغاء الدولة من الذاكرة الإقليمية.
ما يحدث الآن مع إيران لا يختلف كثيرا وإن اختلفت الأدوات وتبدلت الروايات. الحديث عن النووي لا يكاد يُخفي حقيقة أعمق: أن وجود دولة إقليمية كبيرة تمتلك جيشا واقتصادا وبنية مؤسسية راسخة لم يعد مقبولا في معادلة ما بعد الفوضى الخلّاقة . لا أحد يُريد حربا نووية بل ما يُراد حقا هو إنتاج شرق أوسط بلا قلاع بلا دول مركزية بلا حواضر قادرة على أن تُنتج مشروعًا مستقلا ولو جزئيا.
اللافت أن هذا السيناريو رغم تكراره لا يُقابل بالقدر الكافي من الاستفهام الجاد. لماذا تتعرض الدول ذات الثقل السكاني والموقع الجيوسياسي للموجة تلو الأخرى؟ ولماذا يتحول كل ملف داخلي في هذه الدول إلى مدخل لتدخل خارجي شامل؟ وهل حقا ما يُقال عن ملفات حقوق الإنسان أو القدرات التسليحية هو السبب المباشر؟ أم أن هناك مشروعا مضمَرا لا يُعلن إلا بعد أن يقع التدمير وبعد أن تتلاشى البنى المؤسسية ويصعب جمع الأطراف تحت سقف واحد من جديد؟
الخطر في هذه المعادلة أنها تُغلف تدمير الدول بخطابات تبدو أخلاقية. فبينما يُضرب البلد يُقال إنه يُحرر. وبينما تنهار أركانه يُقال إن الشعب يستعيد قراره. هكذا يصبح الضحية متهما والمعتدي مخلّصا ويُطبع الناس مع مشهد الخراب كأنه قدر لا مفر منه.
لكن وسط هذا الانهيار المتكرر يظل سؤال مصر حاضرا بقوة: لماذا أفلتت القاهرة من هذا السيناريو؟ الإجابة لا تُختصر في شعار ولا تُعلّق على جدار بل تكمن في قراءة التاريخ والجغرافيا معا. مصر بتاريخها الطويل كمركز للقرار الإقليمي وبجغرافيتها التي تربط بين ثلاث قارات تعرف جيدا أنها مستهدفة بقدر ما هي مؤهلة للنجاة. ليست الحصانة نابعة من مجرد القوة العسكرية أو المكانة الدبلوماسية بل من وعي الدولة بموقعها ورفضها أن تتحول إلى ورقة في يد أحد أو ساحة لتصفية الحسابات.
لقد أدركت مصر مبكرا أن الفوضى ليست صدفة وأن انهيار الدول من حولها ليس عرضا جانبيا. لذا اختارت طريق الاستقرار ولو كان صعبًا وطريق البناء ولو كان طويلا. وبينما كانت العواصم تُحترق في الليل كانت القاهرة تعيد بناء مؤسساتها في النهار. وبينما كان الآخرون يغرقون في خطاب الكراهية والانقسام كانت مصر تُرمم نسيجها الاجتماعي وتُعيد رسم علاقتها بجوارها الإقليمي والعالمي على أسس المصالح لا الشعارات.
الخطر لم ينته والمشروع لم يُغلق. لكن البوصلة لا تزال في يد من يفكر ويُحسن القراءة ويُصرّ على أن يكون فاعلا لا مفعولًا به. وما يحدث في إيران اليوم ليس مجرد قصة نووية بل فصل جديد من فصول محاولة إعادة صياغة الشرق على مقاس من يظن أنه يملك الخريطة وحده. لكن كما في كل الحكايات الكبرى ليست النهاية بالضرورة مكتوبة، ولا النصر مضمونًا ولا الخراب قدرًا.