المنطقة في مرمى الصفقات.. من يكتب الشروط ومن يدفع الفاتورة؟

كتب /شحاته زكريا
في الشرق الأوسط لا تُدار الملفات الكبرى فقط بمنطق السلاح أو حسابات الجغرافيا ، بل تُكتب بالمداد الخفي للصفقات. صفقات سياسية وأمنية واقتصادية تدور أغلبها في غرف مغلقة وتُصاغ بنودها على وقع المتغيرات الدولية ثم تُعلن كأنها قرارات مصيرية لا مفر منها. السؤال الجوهري هنا: من يكتب الشروط؟ ومن يدفع الفاتورة؟
منذ بداية العقد الثالث من هذا القرن ، باتت المنطقة مسرحا لتقاطع مصالح القوى الكبرى وصندوق اختبار لمعادلات توازن جديدة. ومع اشتعال الأزمات من غزة إلى السودان ، ومن مضيق هرمز إلى مياه المتوسط ، تتقاطع الأهداف والمطامع وتعلو لغة المصالح على حساب المبادئ. لكن ما تغيّر مؤخرا هو أن بعض العواصم العربية لم تعد تنتظر على الهامش.
لقد أدركت دول محورية في المنطقة وفي مقدمتها مصر أن زمن الإملاءات قد ولى ، وأن من لا يكتب الشروط سيُجبر عاجلاً أو آجلاً على دفع الفاتورة. ولهذا كان التحرك المصري خلال السنوات الأخيرة مختلفا في شكله ومضمونه. لم تعد القاهرة تنتظر صفقة تنضج في الخارج لتتعامل مع نتائجها بل باتت تصوغ أوراقها وتدخل مبكرا في قلب المعادلة.
ما يحدث في فلسطين مثال واضح. هناك من يسعى لتصفية القضية على مراحل وعبر أدوات “صفقة كبرى” تمتد من التهجير إلى التطبيع إلى تفكيك الوعي الجمعي. لكن القاهرة،
بصلابة تقليها التاريخي وحنكتها الدبلوماسية ، وقفت موقفا واضحا: لا تهجير ولا وطن بديل ولا فتح لأبواب التصفية المقنّعة تحت عناوين السلام. الموقف المصري هنا ليس فقط انحيازًا للحق الفلسطيني ، بل هو أيضا تمسّك صريح بحدود الدور وحدود الأمن القومي.
والمعادلة ذاتها تتكرر في ملف السودان. حرب مشتعلة على تخوم الجنوب ، ومخاوف من تفتيت الدولة الشقيقة إلى دويلات ، وسط رعاية خفية من قوى دولية تسعى لصياغة واقع جديد على طريقتها. لكن مصر صاحبة التاريخ والجغرافيا والرؤية تتحرك بدافع المسؤولية وليس المصلحة فقط. فهي تعرف أن تقسيم السودان لن يتوقف عند الخرطوم ، وأن استقرار المحيط الجنوبي هو جزء من أمنها الوجودي. ولهذا فحين تتحرك القاهرة في الملف السوداني فإنها لا تبحث عن صفقة بل عن تسوية عادلة تحفظ وحدة الدولة وكرامة الإنسان.
أما على المستوى الاقتصادي ، فالمنطقة أيضا باتت في مرمى صفقات الطاقة والموانئ والبنى التحتية. من يسيطر على الغاز والممرات هو من يكتب مستقبل الاقتصاد ومن يضمن لنفسه مكانا في خرائط الإنتاج والتوريد. وهنا تتقدم المنطقة الاقتصادية لقناة السويس كمشروع لا يبيع السيادة بل يستثمر في الجغرافيا. مشروع تقوده مصر برؤية متأنية تؤسس فيه لشراكات ذكية دون أن تفرّط في القرار أو تتنازل عن الثوابت.
الصفقات إذن ليست شرا في ذاتها لكنها تصبح خطرًا حين تُكتب بعيدا عن إرادة الشعوب أو حين تُصاغ بأقلام لا تضع مصلحة المنطقة في الحسبان. هنا يأتي الدور الحقيقي للدول ذات الرؤية: أن تدخل معادلة الصفقات لا بوصفها طرفا ضعيفا بل صانعًا للقواعد وشريكا لا تابعا.
في ظل التحولات المتسارعة تتكشّف ملامح شرق أوسط جديد، لا مكان فيه لمن يتردد أو يتقاعس. ومن يراهن على الحياد الكامل سيتحوّل إلى ساحة لصراعات الآخرين. لكن من يملك شجاعة اتخاذ القرار ووضوح الرؤية وحكمة التوقيت هو من سيكتب الشروط ويحدد من يدفع الفاتورة ولأي غاية.
ولعل أبرز ما يميز اللحظة الحالية أن الشعوب لم تعد بعيدة عن المشهد. فالإعلام المفتوح ووسائل التواصل والحضور الشعبي في القضايا الكبرى باتوا يشكلون ضميرا عاما لا يمكن القفز عليه. والوعي السياسي في صعود لا سيما في أوساط الشباب الذين لم يعودوا يكتفون بدور المتلقي.بل يطرحون الأسئلة ويفتشون عن الحقيقة خلف كل صفقة معلنة أو مستترة.
إن المنطقة الآن في مفترق طرق حاسم والفرصة سانحة لإعادة التوازن. وإذا كانت الصفقات قدر الجغرافيا فإن كتابة الشروط وبناء المصالح المشروعة هو قرار الإرادة الوطنية الواعية. وفي هذا المضمار تبدو مصر أقرب ما تكون إلى قلب المشهد، ليس فقط كفاعل إقليمي بل كصمام أمان ومصدر ثقة وشريك عاقل في معادلات صعبة.
في النهاية المعادلة ليست من يدفع الفاتورة فقط.بل من يربح بعد دفعها.. ومن يعرف أين ولماذا دفع ومن ضَمِن بقاءه لاعبًا لا رقما في ورقة تفاوض.