المقاومة الناعمة .. كيف تواجه الدول الهشة حروب السوشيال ميديا؟

كتب /شحاته زكريا
في زمن اللايقين لم تعد البنادق هي الخطر الأكبر على الدول بل الهواتف المحمولة. لم تعد الجيوش النظامية وحدها قادرة على إحداث انقلاب في مصير الشعوب بل أصبح بالإمكان زعزعة بلد كامل من خلف شاشة صغيرة بتغريدة مجهولة أو مقطع فيديو مجهّز بإتقان. هذا ليس خيالا بل واقع نعيشه كل يوم وحقيقة يعرفها خصوم الدولة أكثر من بعض صانعي القرار فيها.
الدول الهشة لا تسقط فجأة بل تُستنزف على مراحل. تبدأ القصة دائما من المساحات الرمادية: شائعة تُغذّي شكا ثم محتوى مشبوه يصنع وعيا مزيفا ، ثم موجة سخط شعبية لا نعرف لها مصدرا لكننا نرى آثارها المدمّرة في كل زاوية. إنها الحرب الناعمة التي لا ترى فيها قنابل بل كلمات. لا تسمع فيها دويًا بل تصفيقًا لصورة مفبركة أو تعليق ساخر يعيد تشكيل العلاقة بين المواطن ودولته.
الخطير في هذه الحرب أنها لا تُخاض على حدود الجغرافيا بل داخل حدود العقول. والخصم هنا ليس مجرد طرف خارجي بل هو وعي هش وثقة مفقودة، ومواطن متروك يقتات على الفتات الرقمي لأنه لم يجد من يُخاطبه بلغة تُشبهه. وهكذا حين تغيب الدولة عن المشهد يحضر الغريب يملأ الفراغ ويكتب الحكاية من أولها كأن لا أحد غيره يعرف الحقيقة.
الذين يخوضون هذه الحرب لا يبحثون عن الحقيقة بل عن التأثير. لا يعنيهم ما هو صادق بل ما هو قابل للتداول. وهنا تكمن الفجوة القاتلة بين خطاب الدولة وخطاب الواقع بين البيانات الرسمية التي تصل متأخرةً وبين محتوى رقمي يصل في الثانية الأولى وإن كان مفبركا. الناس لا تنتظر ولا تتحقق بل تنجرف مع أول موجة تُرضي غضبها أو شكّها. وكل تأخير في الرد هو انتصار جديد لأعداء الداخل والخارج.
الدول التي لا تمتلك إعلاما ذكيا تُهزم كل يوم. ليست المعركة اليوم حول من يملك الحقيقة بل حول من يملك القدرة على إيصالها أولا وأذكى. أما الدول التي تصر على الاكتفاء بالإعلام الرسمي وحده فتوهم نفسها بأنها تتحكم في المشهد بينما الحقيقة أن المشهد يُدار من خارجها وبأدوات لا تعرفها ولا تفهمها ولا تستطيع اللحاق بها.
المؤسف أن كثيرا من الدول الهشة تكتشف متأخرة أن المعركة ليست في صدّ الهجوم ، بل في صناعة روايتها قبل أن يصنعها الآخرون عنها. في بناء الثقة لا في القفز فوقها في الشفافية لا في الإنكار في استباق الشائعة لا في مطاردتها في الاستثمار في وعي الناس لا في التحكّم فيهم. وحين تغيب هذه المعادلة يصبح المواطن فريسة سهلة لحروب تُشبه النُكتة لكنها تُسقط دولا من الداخل.
الوعي لم يعد ترفا بل ضرورة أمن قومي والدولة التي لا تفكر بجدية في هندسة خطابها الجديد وبناء أذرعها الرقمية الوطنية ودعم نخبتها القادرة على الفعل والتأثير تترك نفسها عارية في زمن لا يرحم. لم يعد يكفي أن تكون الدولة على حق بل يجب أن تكون حاضرة وأن تقول هذا الحق بصوت يصل وبأسلوب يُقنع وبأدوات يعرفها الناس ولا ينفرون منها.
في النهاية لا أحد يربح هذه الحرب إلى الأبد لكنها تُخاض كل يوم. والمنتصر فيها هو من يسبق إلى العقول لا من يطارد الهزائم بعد وقوعها إنها مقاومة ناعمة لكنها اليوم أعظم ما تحتاجه الدول الهشة لتبقى واقفة أمام سيل الأكاذيب.