مقالات وآراء

الشرق الأوسط… مَن يُشعل النار ومَن يُحترق؟!

لا يُشبه ما جرى في إيران خلال الساعات الأخيرة أي مشهد تقليدي من مشاهد التصعيد العسكري. فالقضية ليست في القنابل التي انفجرت ، بل في المعنى الذي انفجر معها. فالضربة -بصرف النظر عن حجمها الحقيقي- كانت كفيلة بإزاحة كل الأقنعة دفعة واحدة: قناع السيادة، وقناع الردع، وقناع الدولة القوية التي تهدد وتتوعد.

اللافت هنا ليس ما فعلته إسرائيل بل ما لم تفعله إيران. فحين تُضرب الشخصيات الأخطر في الهرم الأمني والعسكري ويُغتال كبار العلماء في المشروع النووي ، ولا تهتز الأرض ولا ينفجر الرد يصبح السؤال مشروعا: هل كانت الدولةُ رهينة الخطاب أم أن الخطاب نفسه كان واجهة لدولة مصنوعة على المقاس؟

إيران التي باعتنا شعار “الممانعة” لسنوات والتي رفعت راية “نصرة القدس” على ساريات السفارات والمراكز الثقافية بدت فجأة بلا سيف ولا درع. ليس لأنها لا تملك أدوات الرد بل لأنها غارقة في حسابات أكبر من الكرامة ، أعمق من الثأر وأثقل من مجرد الرد على صاروخ بصاروخ. إيران اليوم تشبه لاعب الشطرنج الذي تزيّنت كل حركته بالفخ ، حتى صار الفخ هو كل ما بقي لديه على الرقعة.

المنطقة كلها لا تعيش توترا بل تعيش عصرا جديدا من اللايقين. فالدول التي كانت تُدار بالأيديولوجيا باتت تُدار بالحسابات. والحلفاء الذين كانوا يحكمهم الوجدان ، صاروا يتحركون بالبوصلة. وما جرى هو أكثر من ضربة عسكرية هو إعادة ضبط للتموضع ورسالة كاشفة أن إيران ، بهذا الشكل وهذا الخطاب لم تعد ورقة معقولة في يد أحد.

الخطورة هنا ليست فقط على إيران بل على المنطقة بأسرها. فالهشاشة الإقليمية باتت بيئة مثالية لتصفية الحسابات الكبرى. وكل ما كان يُدار في الظل بات يُنفّذ في العلن. إسرائيل لا تبحث عن نصر عسكري بقدر ما تؤسس لمعادلة جديدة عنوانها: لا خطوط حمراء. أما واشنطن فمستقرة في مقعد المايسترو تدير التوتر كأصل استراتيجي ، لا كحدث طارئ.

روسيا مستفيدة طالما بقي الغرب منشغلا في التوترات الجانبية والصين تراقب لتؤمّن مصالحها لا أكثر. أوروبا فقدت أهلية التدخل. أما الأمم المتحدة فصارت شاهدة زور في جنازة النظام الدولي.

ما جرى في طهران ليس إلا قوسا يُفتح على سؤال أكبر: إلى أين؟ من يحمي من؟ ومن يحدد الخطأ والصواب؟ بل من يملك اليوم تعريفا واضحا لمعنى “الأمن” في الشرق الأوسط؟ حين تكون السيادة مسألة تفاهم والردع مسألة توقيت والدم يُراق بصمت دولي فالمنطقة كلها تسير على حدّ السكين.

لقد تجاوزنا مرحلة السؤال عن من يملك السلاح إلى سؤال أكثر خطورة: من يملك القرار؟ وهذا تحديدا ما يجعل لحظة اليوم أخطر من أي لحظة مضت. لأنك إذا جرّدت الدول من سيادتها على قراراتها جعلت منها مجرد ميادين تجريب ومعابر لمشاريع الآخرين.

الشرق الأوسط لم يعُد ملعبا للصراع فقط بل تحوّل إلى خزّان للفرص الضائعة. كل دولة تنتظر الأخرى أن تُضرب لتتفاوض. وكل حليف يتربّص بشريكه لينجو وحده. وبين كل هذا تمضي الشعوب مصلوبةً على جدران الانتظار معلقة بين طموح مضروب وخوف غير معلن.

نعم ما جرى في طهران قد لا يشعل حربا لكنه يُشعل ما هو أخطر: شعور العجز واعتراف مرير بأن الشرق الأوسط بات هو المكان الوحيد في العالم الذي تُدار معاركه فوق أرضه لكن دون أن يُستشار فيها.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى